
باتت خارطة العلاقات السعودية الإسرائيلية تكشف أسرارها بصورة تدريجية، فلم
يعد الأمر غامضاً بدرجة كبيرة بالنسبة للمراقبين لموضوع العلاقات بين الرياض
وتل أبيب. فبعد أن كان اللقاء بين مسؤولين إسرائليين وسعوديين يتم في الغرف
المغلقة، جاء البيان السعودي في 13 تموز 2006، أي بعد يوم من بدء العدوان
الإسرائيلي على لبنان ليختطف إنتباه المراقبين لنوع العلاقة بين العائلة
المالكة والدولة العبرية، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يصدر
بيان من دولة عضو في الجامعة العربية يغطي عدواناً إسرائيلياً سافراً على دولة
عربية أخرى، ولابد أن ثمة وراء الأكمة ما وراءها!
لم يكن مجرد موقف سياسي عابر من عملية محدودة، فقد فتح البيان العيون والآذان
لمتابعة خلفية الموقف السعودي، والذي بدأ يتكشّف تدريجياً بعد لقاء العاصمة
الأردنية عمان بين مسؤولين كبار في الدولة العبرية والأمين العام لمجلس الأمن
الوطني الأمير بندر سلطان، والذي شكّل، أي اللقاء، فاتحة للقاءات سرية وعلنية
تكون الأردن محوراً وحاضناً لها.
ما ظهر بعد ذلك، أن تقاسماً للأدوار بين الأميرين تركي الفيصل، رئيس
الإستخبارات العامة سابقاً والسفير السابق في واشنطن، والأمير بندر بن سلطان
رئيس مجلس الأمن الوطني والسفير الأسبق في واشنطن. وبحسب مصادر سياسية عربية
أصبح الأمير تركي الفيصل الذي لا يضطلع ظاهراً بأي منصب رسمي، يدير اللقاءات
العلنية مع المسؤولين الإسرائيليين تحت غطاء الندوات والمؤتمرات الأكاديمية،
فيما يقوم الأمير بندر بن سلطان بإجراء إتصالات سرية ذات طابع أمني مع مسؤولين
إسرائيليين ينتمون في الغالب الى جهاز الموساد، وتتحدث المصادر هذه عن علاقات
وثيقة تربط الأمير بندر برئيس جهاز الموساد مائير داغان، ومدراء كبار في الجهاز
نفسه.
ليست مؤتمرات (حوار الأديان) سوى إحدى الحلقات العلنية في العلاقات السعودية
الإسرائيلية، حيث يجري العمل على تطبيع العلاقات عبر الدالين: دولي، وديني،
بحسب توصيف مصدر سياسي عربي. في الجانب الإسرائيلي يتصاعد الرهان على الرياض
كيما تقوم بما وعدت به منذ زمن بعيد بأنها الطرف المؤهّل لفتح الأبواب أمام
الإسرائيليين للدخول الى العالم العربي، ما جعل الإسرائيليين يستعجلون تحقيق
الوعد السعودي.
اللقاءات العلنية التي كان يحضرها الأمير تركي الفيصل في واشنطن بحضور أعضاء
ناشطين في الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة ليست مكتومة، بل جرت العادة
على التعاطي معها بطريقة اعتيادية، باعتبار أن اللقاءات تتم بحضور آخرين من
جماعات مختلفة، بالرغم من أن اللقاءات لا تخلو من أحاديث خاصة، وقد ورث السفير
السعودي الحالي عادل جبير تلك العادة من سابقيه الأميرين بندر بن سلطان وتركي
الفيصل، بالرغم من أن الأول فضّل في السنوات الأخيرة الاجتماعات السريّة التي
تجري على مستويات عليا في الدولة العبرية وتتكرّس غالباً لمناقشة الموضوعات
الأمنية، وتتخذ من الأردن قاعدة لها.
ألحوار علني مع اسرائيل
بالنسبة للأمير تركي الفيصل فإن الأمر مختلف الى حد ما ويتعلق عادة بموضوع
التطبيع مع الدولة العبرية عبر لقاءات مفتوحة تتخفف فيها الجرعة السياسية ويسبغ
عليها النقاش الثقافي والأكاديمي وإن بخلفية سياسية. بالرغم من أن حتى اللقاءات
المفتوحة لا تخلو من مجازفة أحيانا، خصوصاً في بيئة عربية مازالت متخاصمة مع
الدولة العبرية حيث تتزايد القناعات باستحالة السلام معها في ظل الاقترافات
الوحشية ضد الشعب الفلسطيني سواء عبر الحصار أو قصف المباني السكنية وهدم
البيوت وقتل المدنيين.
على أية حال، لم يشأ الأمير تركي الفيصل أن يتم تداول خبر مشاركته في أول لقاء
علني مع الاسرائيليين في أكسفورد في السابع عشر من أكتوبر الماضي. وكانت صحيفة
(القدس العربي) الصادرة في لندن قد كشفت خبر اللقاء في الثامن عشر من أكتوبر
وذكرت بأن الاجتماع الذي دعت اليه مجموعة أكسفورد للأبحاث شارك فيه من الجانب
الاسرائيلي الأكاديمي والمستشار السابق للحكومة الاسرائيلية دان روتشيل وعدد
آخر من الباحثين الاسرائيليين المهتمين بشؤون الشرق الاوسط.
وحضر اللقاء من الجانب العربي السيد نبيل زكي مدير مكتب السيد عمرو موسى امين
عام جامعة الدول العربية، ومثّل الجانب المصري نبيل فهمي السفير السابق في
واشنطن، بينما مثل الجانب الفلسطيني العقيد جبريل الرجوب مسؤول الامن الوقائي
السابق ومستشار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وأشرفت على ترتيبات الاجتماع
الناشطة الاكاديمية اليهودية البريطانية غبرائيل ريفكند.
وبالرغم مما قيل عن مشاركة الأمير تركي الفيصل بصفته الشخصية وليس ممثلاً عن
حكومة بلاده، إلا أن المراقبين للشأن السعودي يدركون تماماً بأن خطوة بهذا
المستوى لا يمكن أن تتم من دون تنسيق مع أعلى المستويات في العائلة المالكة،
خصوصاً في موضوع بالغة الحساسية ويرتبط بمبادرة الملك عبد الله للسلام مع
الدولة العبرية.
الجدير بالذكر أن ورقة الأمير تركي الفيصل في الإجتماع جاءت متطابقة مع الرؤية
السعودية الرسمية كما عبّر عنها الملك عبد الله في ورقته ـ المبادرة، والتي تنص
على الإنسحاب الإسرائيلي الى حدود الرابع من حزيران عام 1967، وإقامة دولة
فلسطينية مستقلة، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (وفق التعديل الأخير أي
اعتماد مبدأ التعويضات)، قبل أي تطبيع مع الدولة العبرية.
صحيفة (الغارديان) البريطانية نقلت في 20 أكتوبر 2008 أن تركي الفيصل دعا
الجانب الإسرائيلي إلى (الإنصات جيداً لما تحتوي عليه المبادرة العربية والرد
عليها بصورة إيجابية)، مشيراً إلى أن (الدول العربية ستدفع ثمن السلام، لا
بالإعتراف بإسرائيل ككيان شرعي في المنطقة فقط، ولكن أيضاً بتطبيع العلاقات
معها وإنهاء حالة العداءات القائمة منذ عام 1948).
وحاول العقيد جبريل رجوب الذي كان حاضراً في الإجتماع أن يمرر تحذيراً مبطّناً
من الاقدام على خطوة انفرادية تقوم بها السعودية على طريقة السادات، وقال بأن
(اكبر غلطة يرتكبها زعيم عربي هي أن يذهب الى تل أبيب دون ضمانات محددة. فحالة
السادات كانت مختلفة، حيث حصل على تعهد تحت الطاولة بالإنسحاب من سيناء قبل
زيارته للقدس المحتلة).
الجانب الإسرائيلي الذي بدا مرتاحاً هذه المرة للمبادرة السعودية (العربية)
والتي وصفها بالهامة، طالب العرب بخطوات تطبيعية أكبر، وإجراء إتصالات مباشرة
وعلنية مع الحكومة الإسرائيلية لبحث آليات تفعيل المبادرة وتطبيقها. ولا يمكن
تصوّر إشارة يطلقها الإسرائيليون تحت مسمى العرب لا يعنى بها السعوديون، الذين
يديرون حالياً مشروع التطبيع تحت غطاء (حوار الأديان)، والذي يهيء لمناخ تطبيعي
عالي الفعالية وبحضور شخصيات دينية سلفية على أعلى المستويات، بمن فيهم المفتي
العام للمملكة.
أما اللقاءات العلنية التي يطالب بها الجانب الإسرائيلي مع العرب، فهي الأخرى
تشير إلى السعوديين، الذين فضّلوا لسنوات طويلة أن تكون العلاقة مع
الإسرائيليين محفوفة بالسرية التامة، وقد جاء الوقت الذي يبدي فيه السعوديون
مرونة كبيرة من أجل إزالة السرية عن تلك العلاقة، عبر لقاءات إحتفالية (التصوير
أمام الكاميرات) قبل الانتقال الى الاجتماعات العلنية لمناقشة قضايا محددة
مرتبطة بعملية السلام والتطبيع بأشكاله الثقافية والاقتصادية والسياسية،
وأخيراً الدخول في تحالفات علنية..
من اللافت بعد يوم من نشر خبر اللقاء السعودي الإسرائيلي في أكسفورد، أي في
التاسع عشر من أكتوبر الماضي، أعلن كل من رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز
ورئيس حزب العمل ووزير الدفاع إيهود بارك عن استعدادهما لمناقشة خطة السلام
السعودية الشاملة. وقال باراك في حديث لإذاعة الجيش الإسرائيلي بأن (هناك
متسعاً في الائتلاف الإسرائيلي للمبادرة السعودية، فلدينا مصلحة متبادلة مع
الجهات العربية حول شؤون إيران وحزب الله وحماس). كما نقلت صحيفة (هآرتس) تأييد
الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز تأييد التفكير بالإتفاقية.
لقد فتحت الخطوات السعودية الباب أمام خطوات مماثلة إسرائيلية، وبدأ بيريز صاحب
نظرية (مشروع الشرق الأوسط) الذي يؤسس لتطبيع شامل بين الدولة العبرية والعرب،
بالتسويق لـ (سلام إقليمي) على قاعدة أن التسوية على أساس المسارات المنفردة لم
تحقق النجاح المطلوب، وبات من الضروري إشراك العرب جميعاً في صنع الإجماع
المطلوب للسلام مع الكيان الإسرائيلي، من خلال تعزيز مواقع الدول العربية
(المعتدلة)، ممثلة في مصر والإردن (اللتان وقّعتا اتفاقيات سلام مع الدولة
العبرية) والسعودية إضافة الى عدد من دول الخليج.
وكانت رئيسة حزب (كاديما) تسيبي ليفني، قد أعربت منذ كانت عضواً في حزب الليكود
عن تأييدها لمبادرة السلام السعودية. وهاهي اليوم تتمسك بموقفها في تأييد
المبادرة بعد فوزها برئاسة (كاديما) مع رفضها القاطع لبند اللاجئين الوارد في
المبادرة، وكذلك موضوع الجدول الزمني المحدد فيها، كمقدمة للتطبيع بين العرب
والكيان الإسرائيلي.
لاشك أن الحماس الإسرائيلي للمبادرة السعودية وخصوصاً في الفترة الأخيرة يبعث
جدلاً ممتداً في الأوساط الإعلامية والسياسية. فقد كتب رئيس تحرير صحيفة (القدس
العربي) عبد الباري عطوان إفتتاحية في 21 أكتوبر 2008 تناول فيها خلفيات الحماس
الفجائي في الدولة العبرية حيال المبادرة السعودية، أي بعد ست سنوات على
إطلاقها. ويعتبر عطوان هذا الحماس بأنه يترجم تحوّلاً أساسياً في الموقف
الإسرائيلي (فالحكومة الاسرائيلية الحالية، مثل كل الحكومات السابقة، ظلت تماطل
في ردها على هذه المبادرة، وتطالب العرب بالتطبيع أولاً، قبل أي نقاش جدي
بشأنها، بل انها ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك عندما طالبت الزعماء العرب،
والعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز، على وجه الخصوص، بالتوجه الى
القدس المحتلة لطرحها امام الكنيست (البرلمان) الاسرائيلي، أسوة بالرئيس الراحل
محمد انور السادات).
هذا التحوّل لم يكن بريئاً بحسب عطوان بل يصفه بأنه (طبخة جديدة)، يجري الإعداد
لها بشكل متسارع، (إبتداء من الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الاسرائيلي بيريس
الى شرم الشيخ (الشهر الماضي) للقاء نظيره المصري حسني مبارك، عراب السلام،
وزعيم محور دول الاعتدال العربي الذي يضم بلاده، علاوة على دول الخليج الست
والاردن).
ويرجع عطوان أسباب الحماس الإسرائيلي المفاجىء للمبادرة السعودية إلى: تكهّنات
سابقة بسقوط المحافظين الجدد وصول الديمقراطيين الى سدة البيت الأبيض، على أساس
أن (الرئيس الأمريكي جورج بوش.. يعتبر أكثر الزعماء الأمريكيين ولاءً للدولة
العبرية، وخدمة لمصالحها). ثانياً، إنعكاس الأزمة المالية الحالية على اللوبي
الإسرائيلي (الذي يستخدم المال سلاحاً سياسياً في الهيمنة على الحكومات
الغربية)، ثالثاً وجود قناعة راسخة في أوساط أمريكية وغربية عديدة، بأن الحرب
على الارهاب مكلفة للغاية ولا أفق لنجاح حروب أمريكا في أفغانستان والعراق
(وهذه الخسارة التي باتت وشيكة جداً، ستؤدي إلى حدوث انقلاب في المعادلات
الاستراتيجية الدولية)، خامساً: حرب تموز (يوليو) عام 2006 اللبنانية اثبتت
سقوط نظرية التفوق العسكري الاسرئيلي أمام قوات عقائدية غير نظامية، وانتهاء
دور التفوق الجوي في حسم الحروب أمام التطور النوعي في القدرات الصاروخية في
المقابل. سادساً: امتلاك العرب، والخليجيين منهم خاصة، أوراقا استراتيجية كبرى
سيكون لها تأثير عالمي اذا ما استخدمت بحكمة، ابرزها عودة سلاح البترول إلى
فاعليته السابقة.
ويختم عطوان مقالته بالقول (نحن أمام خديعة جديدة، ربما تصبح أكثر خطورة من كل
الخدع السابقة، لانها ستؤسس لحلف جديد، تكون اسرائيل زعيمته، يقسم المسلمين على
اسس طائفية، ويشعل فتيل حرب بين العرب والايرانيين ربما تنتهي بتدمير او اضعاف
الطرفين، وبما يؤدي الى تقوية اسرائيل وهيمنتها الكاملة على المنطقة، بعد ان
ادركت ان الغرب بدأ يدرك كم هي عبء مكلف على كاهله امنيا وسياسيا واقتصاديا).
وكان شمعون بيريز قد أكّد في مؤتمر صحافي عقده مع نظيره المصري حسني مبارك في
23 أكتوبر 2008 بأن (السلام لم يكن أبدا ممكناً في السنوات الماضية مثلما هو
الآن، ومن الخطأ ان نضيّع مثل هذه الفرصة).
من جهة ثانية، نقل موقع (المنار) الفلسطيني على شبكة الإنترنت في 23 أكتوبر
2008 عن مصدر دبلوماسي عربي رفيع المستوى في العاصمة الامريكية أن (ورشة عمل)
بدأت أعمالها في الأسبوع الأول من أكتوبر 2008 في واشنطن بمشاركة شخصيات رسمية
وخبراء في شؤون الشرق الاوسط من السعودية ودول عربية أخرى واسرائيل والولايات
المتحدة، وشخصية فلسطينية مع إثنين من مستشاريه، من أجل (تعديل) المبادرة
العربية، وتطويرها كما يقول المصدر، لتكون أساسا للعملية السلمية الشاملة التي
ستنطلق مع ولادة الإدارة الامريكية الجديدة.
وقال مصدر رسمي أمريكي للموقع أن شخصيات اسرائيلية تشارك في هذه الورشة من
بينها مستشار رفيع المستوى لمسؤول اسرائيلي كبير، وأن هذه الورشة تبحث في
البنود المختلف عليها، والتي شكلت سببا لرفض اسرائيل لها قبل سنوات، عندما
طرحتها السعودية في قمة بيروت وتحولت فيما بعد الى مبادرة عربية ، وذكر المصدر
أن ورشة العمل هدفها الخروج بمسودة معدلة للمبادرة تطرح فيما بعد في اجتماع قمة
يشارك فيها القادة العرب، أو على مستوى وزراء الخارجية لاعتماد التعديلات،
وتعرض في نفس الوقت على الجانب الاسرائيلي للمصادقة عليها، واضاف المصدر أن
الاطراف ذات العلاقة ستقوم خلال الاسابيع القادمة باطلاق بعض (بالونات
الاختبار) حول البنود المتعلقة بمسألة اللاجئين وتسريب معلومات عن الادارة
المشتركة المحتملة لمدينة القدس بهدف التعرف على صدى ورد الفعل على هذه
التسريبات في الساحتين العربية والاسرائيلية.
وكشف المصدر للموقع المذكور بأن لقاءً سعودياً إسرائيلياً سرياً عقد في
الولايات المتحدة قبل انطلاق ورشة العمل تدارس فيه الجانبان تعديلات مقترحة،
حملها رئيس الوفد الاسرائيلي الى تل ابيب، وكان لقاء آخر حول نفس الموضوع قد
عقد قبل ذلك بين العاهل السعودي ورجل أعمال يهودي أمريكي قام بزيارة الرياض
لتشجيع السعودية على قيادة التيار العربي المطالب بتعديل المبادرة العربية
للسلام، والتي كانت السعودية قد طرحتها في القمة العربية ببيروت سنة 2002.
وأكد المصدر لـ (المنار) الفلسطينية أن الهدف من ورشة العمل المنعقدة بواشنطن
التوصل في نهاية المطاف إلى مسودة معدلة تعرض بعد المصادقة عليها عربيا
وإسرائيليا على الادارة الامريكية بشكل مشترك أو فردي من خلال الخروج بإعلان
ودعوة الى الجانب الامريكي والادارة الجديدة فور تسلّمها السلطات لتقوم
برعايتها، واشار المصدر الى أن المرحلة القادمة سوف تشهد تحركات لتمرير
التعديلات، التي تفرضها التغيرات.
لقاءات متواصلة بين الرياض وتل أبيب
منذ سبتمبر 2006، بدأت قصة العلاقة السعودية الإسرائيلية تكشف عن معالمها
الأولية والتي ماكان لغير حرب تموز على لبنان أن تميط لثاماً كثيفاً عنها رغم
ما قدّر لعمق تلك العلاقة من سرية كبيرة، كما كشفت عنها وثيقة صادرة عن لجنة
أميركية مشتركة مؤلفة من موظفين متخصّصين في وزارة الخارجية الأميركية
والكونغرس في بداية عهد الرئس بيل كلينتون سنة 1993. الوثيقة تحدّثت عن روابط
غير اعتيادية بين تل أبيب والرياض، ولم يقدّر لغير حرب تموز 2006 أن ترفع
الغطاء جزئياً عن ذلك التنسيق الفريد بين الدولتين خلال الحرب بحيث تقدّم
الرياض غطاءً سياسياً وإعلامياً وتالياً مالياً لعدوان إسرائيلي على لبنان.
في سبتمبر 2006، بدأ المراقبون للشأن السعودي وللعلاقات بين الرياض وتل أبيب
يتابعون بقدر كبير من الإهتمام ما يحاول الجانب السعودي إخفاءه، فيما يسعى
الإسرائيلي إلى البوح به ما أمكنه ذلك، إعتقاداً منه بأن العلاقه معه لا يجب أن
تتخذ شكل العار الذي يهرب ويبرأ منه الآخرون.
بعد أسابيع من وقف الأعمال العدائية بين لبنان والدولة العبرية في 14 أغسطس
2006، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية وغربية أنباء عن لقاءات سريّة جمعت بين رئيس
مجلس الأمن الوطني الأمير بندر بن سلطان مع مسؤولين إسرائيليين كبار تم تحديد
هوية إثنين منهم وهما رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ورئيس جهاز الموساد
مائير داغان، فيما تمت تسمية أماكن اللقاء منها: عمان وشرم الشيخ.
نتف الأخبار التي ظهرت لاحقاً ألمحت إلى أن أجواء جديدة تسود علاقات الدولتين،
ولم يكن ظهور مندوبة صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية أورلي أزولاي في
العاصمة السعودية بمرافقة بان كي مون وخلال القمة العربية التي انعقدت في
الرياض في مارس 2007، ثم إنضمامها الى فريق الإعلاميين المصاحب للرئيس الأميركي
جورج بوش في يناير 2007، وكان الإستقبال في كليهما حاراً، عبّرت عنه المندوبة
الإسرائيلية في الرابع عشر من يناير 2007 بالقول (وجدت نفسي في الفرع المؤقت
ليديعوت أحرونوت في الرياض).
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حصلت المندوبة الإسرائيلية على بطاقة صحافة
سعودية رسمية صادرة من وزارة الإعلام السعودية، وأن ثلاثة مقدّمين في التلفزيون
السعودي طلبوا مقابلتها في بث حي، إضافة إلى أحاديث وديّة جرت داخل قاعات
مغلقة.
لم تكن هذه الوقائع تجري بهذه الوتيرة السريعة لو لم تسبقها وقائع أخرى كثيرة
وبالغة الأهمية تقضي السماح لمندوبة إسرائيلية بالقدوم الى الرياض، ولو لم يكن
قد جرى شيء كبير بين المسؤولين في الدولتين العبرية والسعودية.
وما إن أطلّ شهر سبتمبر 2007 برأسه حتى جاء بمعطيات جديدة حول لقاءات بين
مسؤولين إسرائيليين وسعوديين في بلد ثالث. وكما في المرات السابقة، فإن الصحافة
الإسرائيلية (تتبرع) بإذاعة خبر اللقاءات، بإيحاء من المسؤولين الإسرائيليين
الذين يصرّون على لقاءات علنية، كجزء من عملية التطبيع المطلوبة إسرائيلياً.
اللقاء الأخير، بحسب مصادر سياسية إسرائيلية، لم يتطرق لطبيعة العلاقات بين
الدلوتين، بل تركّز في بحث التطوّرات في المنطقة. المسؤول الإسرائيلي الذي كان
يتحدث لصحيفة (هآرتس) في سياق تعقيب على مشاركة الحاخام اليهودي الإسرائيلي
دافيد روزين من القدس في مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد في مدريد في يوليو
الماضي. وكان الحاخام الإسرائيلي قد صافح الملك عبد الله وعرّف نفسه بأنه
(حاخام من القدس الشريف). وقال الحاخام لصحيفة (هآرتس) في 23 يوليو 2008 بأن
(السعوديين معنيون بالهدوء في المنطقة إلا أنهم كعادتهم يتحركون ببطء). وتوقّع
الحاخام الإسرائيلي أن (تتضح معاني المؤتمر أكثر مع تواصل اللقاءات).
وكان الحاخام روزين قد تلقى دعوة مباشرة من السعودية، وبحسب صحيفة جيروزاليم
بوست في 3 يوليو 2008 فإن روزين هو الحاخام الوحيد الذي يسكن في إسرائيل الذي
يتم دعوته من جانب الملك عبد الله ورابطة العالم الإسلامي لحضور مؤتمر حوار
الأديان في مدريد بين 16 ـ 18 يوليو 2008. وقال روزين بأن السعوديين (يستعدون
للقمة الكبيرة على مراحل. وفي ما يبدو، فان توجيه الدعوة الى احد الحاخامين
الاسرائيليين الرئيسيين سيكون خطوة كبيرة جدا بالنسبة الى السعوديين. ولكنني
آمل بانهم سيصلون الى تلك الخطوة في النهاية).
نشير الى أن روزين يشغل مناصب عليا في الدولة العبرية، منها ترؤّسه اللجنة
اليهودية الدولية للمشاورات بين الاديان هي ائتلاف واسع من منظمات وجهات تمثل
يهود العالم في علاقاتهم مع اديان اخرى. ويرأس روزين ايضا العلاقات بين الاديان
للجنة اليهودية الاميركية ويحتل منصب مستشار للحاخامية الكبرى في إسرائيل لشؤون
الحوار مع الأديان ورئيس المجلس اليهودي العالمي للعلاقات بين الأديان، وقد تم
توجيه الدعوة السعودية إليه بالإسم وعن سابق معرفة بدوره ومنصبه. وقد تحدّث
الحاخام في لقائه مع الملك بالعربية بوصفه حاخاماً من (القدس)، مشيراً الى أن
وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل قال له إنه كان من المهم أن يحضر المؤتمر بل
إنه أوصى التلفزيون الرسمي السعودي بإجراء مقابلة معه.
وفي وقفة تأمل مع أغراض مؤتمر مدريد لحوار الأديان، أمكن القول بأنه لو كان
هناك مبرر قوي وشديد الإلحاح بشأن عقد مؤتمر لحوار الأديان تموّله وتشرف عليه
السعودية فإنه الحضور اليهودي، وتهيئة الأجواء لقبول الحوار الممهّد للتطبيع مع
الدولة العبرية. لم يكن هناك من مشكلة واجهت الحوار الإسلامي المسيحي، فقد
انعقدت عشرات بل مئات الحوارات الضيّقة والموسّعة بين علماء الديانتين، ولكن
ثمة من تنبّه إلى أن التطبيع السياسي والثقافي والإقتصادي بين الدولة العبرية
والدول العربية يبدأ من المسؤولين عن إنتاج المشروعية الدينية للدول، وهم
العلماء الذين بدورهم يضطلعوا بمهمة توفير الغطاء الديني للتطبيع مع الدولة
العبرية عبر عناوين مورد قبول وشائع مثل الحوار.
عودة الى سياق الموضوع حول اللقاء السعودي الإسرائيلي، فقد كشفت صحيفة هآرتس في
20 يوليو 2008 عن اقتراح سعودي إسرائيلي لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين يلغي حق
العودة من أجندة التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني. وقال الصحيفة بأن لقاءً جرى بين
رجل الأعمال اليهودي الأمريكي دانيال أبرامس المقرب من أولمرت مع الملك السعودي
قبل خمس سنوات عندما كان ولياً للعهد قام فيه بدور الوسيط بين الرياض وتل أبيب
وتوصلوا عبر هذه الوساطة إلى اتفاق يشكل حلاً يعتمد المال كحل لمشكلة
اللاجئين!.
وينص الاقتراح، بحسب الصحيفة، على أن يتخلى الفلسطينيون نهائياً عن أراضيهم
مقابل أن تعطى لهم أراضٍ بديلة داخل الأرض المحتلة، وهذا ما بدأ أولمرت
بالتلميح إليه في مفاوضاته مع عباس عارضاً عليه جزءاً كبيراً من صحراء النقب
مقابل التخلي تماماً عن أي حق في أراضي المستوطنات الكبرى وكان رئيس المكتب
السياسي في حركة حماس خالد مشعل قد أكد أن حق العودة هو ملك للشعب الفلسطيني
ولا يحق لأي زعيم التصرف فيه لأنه ليس ملكا له وليس ملكا لأبيه على حد تعبير
مشعل.
اللافت في التطوّرات المتسارعة في العلاقة بين الرياض وتل أبيب، برز في تساؤل
صحيفة (هآرتس) في 20 يوليو الماضي 2008: هل قررت المملكة العربية السعودية
تغيير علاقتها بإسرائيل، وذلك في ضوء عدد من الإشارات حول تصدع العداء الرسمي
بين الدولتين؟
هذا السؤال لم يعتمد فحسب على مشاركة حاخام إسرائيلي في مؤتمر حوار الأديان
فحسب، بل يستدعي جملة اللقاءات السرية التي جرت بين مسؤولين سعوديين
وإسرائيليين وبصورة منتظمة منذ سبتمبر 2006 وحتى اللحظة. وذكرت (هآرتس) عن لقاء
سري عقد في دولة ثالثة فضّلت عدم تسميتها بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين
نوقشت خلاله سيناريوهات الأحداث في المنطقة.
من جهة ثانية، ذكرت (هآرتس) عن إشارة لافتة تمثّلت في قيام موقع (إيلاف)
الالكتروني الذي يديره عثمان العمير المقرّب من العائلة المالكة، بإرسال طلب
رسمي إلى مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي، لمنح بطاقة صحافي لمراسله في
إسرائيل نضال وتد.
ونقلت الصحيفة عن رئيس المكتب الصحافي الحكومي أن (إيلاف) ليس وسيلة الإعلام
السعودية الوحيدة التي تقدمت بطلبات مماثلة، مشيرة الى أن العديد من وسائل
الإعلام السعودية وبينها صحيفة (الشرق الأوسط)، تجري مقابلات مع مسؤولين
إسرائيليين. وأجرت مقابلة مماثلة عبر مراسلها في إسرائيل نظير مجلي، مع رئيس
الوزراء إيهود أولمرت مطلع يوليو 2008.
يذكر أن صحيفة (هآرتس) كانت قد نشرت أنباء عن لقاءات تنسيقية بين مسؤولين
إسرائيليين وسعوديين فيما يتصل بمواجهة إيران وإحتمال قيام الدولة العبرية
بتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. وكان مسؤولون إسرائيليون
ذكروا في ديسمبر 2007 بأن السعودية تشجّع إسرائيل على الضغط داخل الولايات
المتحدة من أجل القيام بعمل عسكري ضد إيران من أجل كسر نفوذها في المنطقة،
وتخريب ما حققه حزب الله في لبنان من صد للعدوان الإسرائيلي، بما يسمح بإعادة
ترتيب لأوضاع إقليمية كبرى في العراق ولبنان وفلسطين وحتى سوريا التي كانت
الرياض تخطط مع تل أبيب من أجل إطاحة النظام الحاكم فيها.
من جهة ثانية، كشفت صحيفة (المنار) الفلسطينية في 13 أغسطس 2008 عن اجتماعات
سرية مكثفة عقدتها قيادات سياسية وأمنية سعودية مع قيادات يهودية في الولايات
المتحدة تناولت الصراع العربي الاسرائيلي والدور السعودي في التأثير على الموقف
الفلسطيني من افكار طرحتها هذه القيادات اليهودية.
واشارت المصادر الى ان مبعوثين إسرائيليين تواجدوا في تلك الفترة في الولايات
المتحدة، والتقوا إثنين من المسؤولين السعوديين يشغلان مناصب أمنية رفيعة،
وأحدهما عضو في هيئة التنسيق الأمني السرية التي شكلتها الولايات المتحدة في
المنطقة.
واكدت المصادر، بحسب الصحيفة، أن السعودية أبدت استعداداً كاملاً للتأثير على
القيادة الفلسطينية والمساهمة بشكل كبير في حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في
حال اتفقت الأطراف المعنية على حل لهذه المشكلة، وأضافت المصادر أن المسؤولين
السعوديين أبلغوا القيادات اليهودية أن الرياض ستقوم قريباً بإجراء تعديلات
جوهرية على مبادرة السلام العربية وإعادة طرحها من جديد لكسب تأييد عربي لها.
وكانت الصحيفة قد ذكرت في 28 أغسطس 2008 بأن مشاورات تعقدها الرياض والقاهرة من
جهة مع دمشق لتعديل المبادرة العربية. ونقلت الصحيفة عن مصادر دبلوماسية
أوروبية أن معسكر الاعتدال العربي يخشى من فقدان الأمل بإحداث تقدّم في عملية
السلام وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ولذلك، تقوم دول هذا المعسكر وبشكل
خاص مصر والسعودية باتصالات لاعادة تغليف (تعديل) المبادرة العربية للسلام
وإعادة طرحها بشكل يتلاءم مع التطورات والواقع الحالي في المنطقة، وأشارت
المصادر الى أن العلاقات بين القاهرة ودمشق والرياض سوف تشهد تطورا خلال الأيام
القادمة بهدف إشراك سوريا الرئيسة الحالية للقمة العربية في الجهود التي تبذل
لإعادة طرح المبادرة العربية للسلام بشكلها الجديد، وسوف تحاول السعودية ومصر
الحصول على تأييد غالبية الدول العربية للمبادرة في شكلها الجديد والتي ستعرض
على الإدارة الامريكية الجديدة فور دخولها البيت الأبيض. ونقلت الصحيفة عن تلك
المصادر قولها بأن الدول العربية المعنية ستعمل على دفع الإدارة الامريكية
القادمة إلى لعب دور كبير في رعاية عملية السلام في الشرق الاوسط منذ لحظة
دخولها البيت الأبيض، وأنها لن تنتظر حتى تطرح هذه الإدارة مبادرة سلام جديدة.
وكشفت المصادر للصحيفة بأن مستشارين سياسيين كبار من السعودية ومصر أجروا
إتصالات وعقدوا لقاءات مع مسؤولين كبار مختصين في شؤون الشرق الاوسط من الحزبين
الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، ومع بعض مساعدي المرشحين للرئاسة في
محاولة لجس نبضهما ومعرفة رغباتهما في المرحلة القادمة اتجاه الأوضاع في
المنطقة. وقالت المصادر أن هذه الإتصالات الأولية لم تنضج عنها بعد رؤية نهائية
لطبيعة التغيرات التي سيتم إدخالها على المبادرة العربية التي من المتوقع أن
تستكمل باشراك القيادة السورية. وحسب المصادر الدبلوماسية، فإن القيادة السورية
تؤيّد الخروج بمبادرة عربية للسلام تشكل الموقف الرسمي للدول العربية في
التفاوض مع اسرائيل، وأن تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على رعاية ذلك، على أن
يكون التفاوض بشكل جماعي دون الإنفراد بالمسارات المختلفة.
وترى المصادر أن هذا التوجه لدى الدول العربية، يأتي في أعقاب تأكيدات بفشل
المبادرة الأمريكية للسلام التي انطلقت في انابوليس، إلا أن فكرة إدخال تغييرات
وتعديلات على المبادرة العربية ليس بالأمر الجديد وأن العديد من الأطراف
العربية اقترحت ذلك في السابق.
الجدير بالذكر أن رهاناً إسرائيلياً بقي حاكماً على المبادرة العربية وكذلك
اللقاءات والإتصالات المنتظمة بين مسؤولين إسرائيليين وقيادات عربية في معسكر
الاعتدال، ويتمثّل هذا الرهان في اعتراف سعودي علني بالدولة العبرية. وكانت
صحيفة (يديعون أحرونوت) ذكرت في أبريل 2008 بأن مسؤولين إسرائيليين أوضحوا
لنظرائهم الأميركيين بأن إسرائيل معنيّة بأن تعترف السعودية بوجودها قبل
المؤتمر المزمع عقده في الخريف القادم، ذلك أنه من دون اعتراف كهذا لن يكون من
الممكن البحث في المواضيع المرتبطة بالتسوية الدائمة.
ما سبق يكشف جانباً من اللقاءات السرية السعودية الاسرائيلية والتي تستهدف في
المرحلة الراهنة تهيئة مناخ تطبيعي يؤول الى خلق واقع جديد يحرم الفلسطينيين
والعرب من حقوقهم التاريخية والمشروعة.