
بات ضرورياً على الدوام أن تخضع فتاوى كبار العلماء، خصوصاً تلك التي تحمل
أبعاداً سياسية أو ذات صلة بقضايا سياسية راهنة وبالغة الحساسية لقراءة غير
دينية، أي تجاوز الأسس العقدية التي تستند إليها لفهم خلفية الفتوى الشرعية،
إلى البحث في الدوافع السياسية المحرّضة على صدورها.
وبحكم العلاقة الحميمية بين العلماء والأمراء، فإن الفتوى لا تغدو دينية
بالضرورة، بالنظر أولاً إلى دور العلماء في تعضيد سلطة الأمراء، وثانياً إلى
طائفة كبيرة من الفتاوى التي صدرت في مراحل سابقة، تنضح بأغراض سياسية أو
أمنية، بل، وهذا الأهم، أنها جاءت منسجمة مع التوجه السياسي للعائلة المالكة،
الأمر الذي يؤكّد أن كبار العلماء بقوا دائماً بتصرف الأمراء، لجهة توفير
المسوّغات الدينية لسياسات تخالف ما عليه إجماع الأمة، سيما في قضايا واضحة،
كمأساة غزة اليوم التي أطلقت نداءً مفتوحاً لكل المسلمين بالجهر بالاحتجاج
الشعبي على جرائم الصهيونية فيها.
لن نذهب بعيداً في وضع الفتوى ضمن سياق تواطؤي مع الكيان الصهيوني في عدوانه
الوحشي على قطاع غزة، وإن كانت الفتاوى قابلة للتوظيف في مثل هذه الأجواء
المحتقنة، بل قد تلبي حاجات غير منظورة أيضاً، ولكن ثمة ما يدعو لمناقشة صدقية
هذه الفتاوى كونها تأتي في مناخ غير محايد، أي بكلمة أخرى غير نزيهة من جهة
كونها تغطي تدبيراً سياسياً رسمياً، وتمنح السلطة الحاكمة مسوّغاً لاستعمال
القمع ضد الذين لم يجدوا وسيلة للتعبير عن تضامنهم مع أهالي غزّة، سوى التظاهر
السلمي لإيصال الصوت الى صنّاع القرار من أجل الضغط على المجتمع الدولي لوقف
شلال الدم الذي يجري بغزارة في شوارع غزّة.
وفيما انتظمت شعوب العالمين العربي والإسلامي، بل وشعوب عديدة في أرجاء مختلفة
من العالم، في مسيرات احتجاجية للضغط على المجتمع الدولي من أجل وقف العدوان
الصهيوني على قطاع غزة، برز وبصورة مفاجئة رئيس مجلس القضاء الأعلى السعودي
الشيخ صالح اللحيدان ليقدّم رأياً ـ فتوى في المظاهرات لمؤازارة سكّان قطاع غزة
على أنها من قبيل "الفساد في الأرض، وليست من الصلاح والإصلاح"، وزاد على ذلك
بالقول "أن المظاهرات حتى إذا لم تشهد أعمالاً تخريبية فهي تصد الناس عن ذكر
الله، وربما اضطروا إلى أن يحصل منهم عمل تخريبي لم يقصدوه". وتساءل "متى كانت
المظاهرات والتجمعات تصلح؟". وقال اللحيدان خلال محاضرة عامة بعنوان "أثر
العقيدة في محاربة الإرهاب والانحراف الفكري" إن أول مظاهرة شهدها الإسلام في
عهد الصحابي الجليل عثمان بن عفان "كانت شراً وبلاء على الأمة الإسلامية"،
واصفاً تعبير الجماهير عن مواقفها عبر التظاهر بأنه "إستنكار غوغائي"!.
وتبدو المجادلة في محتويات هذه الفتوى بلا طائل، خصوصاً وأن اللحيدان لا يصدر
عن رؤية واضحة لمجريات الجريمة، بل تميل به الدوغمائية المنفلتة إلى تصوير واقع
متخيّل ينفرد به وحده، ويبني عليه فتواه. ولذلك فهو ينظر إلى التظاهر من زاوية
آثارها الجانبية الاستثنائية وغير الثابتة "المظاهرات مسألة فوضى، فهم يخربون
ما يمرون عليه من المتاجر، ويرون أن هذا غضب منهم على العدوان، وهذا مما ينمي
العدوان بينهم". وبالتأكيد، لا يتحدث اللحيدان عن تجربة عاشها شخصياً، أو كان
شاهداً عليها، بل هو ينقل ما ينتجه الواقع المتخيّل من صور لا تبدو منظورة، أو
ينزع إلى تعميم حالات جرت في أماكن من العالم، للخروج برأي شرعي، بالرغم من أن
اللحيدان ليس بحاجة إلى أمثلة لتحريم التظاهر، لأن الحكم مملى سياسياً، وليس
دينياً. ولذلك لا عجب من ربطه التظاهر بمشيئة ولي الأمر أو كما يقول "التقيد
بما يصدره ولي الأمر فيه، وليس بشرط أن يكون الدعاء جماعياً، فربما يستجيب الله
دعوة المنفرد". بكلمة أخرى، فإن اللحيدان يستجيب للضمير السياسي الذي يطوي على
رفض أي أشكال التجمع، وإن كان لمجرد الدعاء لنصرة أهل غزة، فكيف إذا كان
التجمّع يستهدف خروجاً إلى الشوارع واعلان التضامن مع غزة، والاحتجاج على صمت
حكامه وتخاذلهم في قضية عادلة، مورد إجماع المسلمين قاطبة، بل وأحرار العالم،
ولذلك تنزّل اللحيدان إلى مستوى من النصرة المنفردة، أو الدعاء المنفرد؟
صحيح أن فتوى اللحيدان هذه ليست بدعاً في فتاوى علماء الوهابية، فقد سبق صدور
تحريم ضد مبدأ التظاهر، ولكن لا يعني ذلك أنه كان مفصولاً عن غايات سياسية
معلومة، وخصوصاً حين يكون النظام الحاكم واقعاً تحت ضغط بيئة تهديد داخلية كانت
أم إقليمية، فالذين خرجوا في مسيرات ذات طابع مطلبي في أرجاء مختلفة من البلاد
كانوا يخضعون لإجراءات قمعية قاسية، لأن هناك في المؤسسة الدينية من أسبغ عليها
طابعاً دينياً، فكيف إذا ما جرى توصيف المسيرات بأنها من صور "الإفساد في
الأرض" أو "الصدّ عن ذكر الله" والتي تنطوي على عقوبات قصوى، بحسب الآية
الكريمة "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن
يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم
خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".
فهل يصدق وصف "الإفساد في الأرض" على مسيرة تضامنية مع أهالي غزة، في محنة هم
أشد ما يكونوا فيها للتضامن والإحتجاج على ما يقترف بحقهم من قبل الصهاينة
وبتواطؤ فاضح من المجتمع الدولي، وتخاذل مشين من قادة عرب، في مقدمهم القيادة
السعودية، التي صمتت عن سفك دم غزة في العلن، وباركته في السر؟!..هل يصدق وصف
"الصدّ عن ذكر الله" على خروج الناس الى الشوارع للتعبير عن استنكار وإدانة
جريمة العصر بأيدي دعاة الحضارة وحقوق الإنسان، فلم تسلم حتى مساجد يعبد فيها
الله وحده في غزّة، لتضاف إلى جرائم أخرى أشد بشاعة كقتل الأطفال والرضّع
والنساء الحوامل والشيوخ؟!
فقد كثيرون في هذه الأمة الأمل في أن يأتي الخير على أيدي آل سعود، فجاءت فتاوى
العلماء لتضعهم معهم في خانة واحدة، حتى صارت فتاوى "تحريم التظاهرات" من أجل
غزة، موضع استهجان من أناس يلهجون بإسم الله سبحانه وتعالى في الظاهر ويطعنون
عباده في الباطن. فلا يكاد موقع على شبكة الإنترنت ولا قناة فضائية إلا عرضت نص
فتوى رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان، المقرّب من الجناح السديري
في العائلة المالكة، ثم جاء المفتي الأعلى لآل سعود الشيخ عبد العزيز آل الشيخ
ليصبح الموقف الديني متطابقاً مع الموقف السياسي من العدوان الصهيوني على غزة.
وحتى أولئك الذين سعوا إلى التمايز عن الموقف الوهابي الصريح من التظاهر لم
يتحرروا من قيود السلطة واملاءاتها، من بينهم الداعية عوض القرني الذي بدا في
مستهل رأيه بأنه متسامحٌ إزاء المظاهرات، واعتبرها "من الأمور العادية"، ولكنه
ما لبث أن وضع ضوابط على جوازها، ومنها "موقف سلطات البلد المعيّن وإجازتها لها
أم عدم إجازته". بكلام آخر، يؤيّد القرني ضمنياً قرار المنع، فهو يدرك تماماً
بأن آل سعود لم ولن يسمحوا للتظاهر في هذا البلد، ولو فني أهل غزة بأسرهم أو
ابتلعها البحر، كما يأمل الصهاينة. بل لا تخلو الضوابط الأخرى التي وضعها
القرني على التظاهر من استنكار، فهو يشترط قبل موافقة الحكومة عليها أن تكون
الغاية واضحة، الأمر الذي يعني أن كل ما هو خلاف رغبة الدولة أو حتى المؤسسة
الدينية يصبح غير شرعي. ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يخلص القرني من ضوابطه إلى
اعتبار المظاهرات غير جائزة، فإذا كانت الغاية نزيهة وشريفة، لا يصبح التظاهر
جائزاً، لأن الدولة لا تسمح بذلك.
هكذا تغدو السخرية الوهابية بدماء غزة، حيث يتحوّل الاحتجاج على جرائم الصهاينة
وجهة نظر، في ظل استمرار الغارات الوحشية على مناطق القطاع، وإزهاق الأرواح
البريئة. وهل يرجى من علماء ودعاة خيرٌ وهم يتجادلون في جواز دعم أهالي غزة
بالكلمة أم لا؟! فأين الأحاديث التي تحث على نصرة المظلوم، وأن "أفضل الجهاد
كلمة حق عند سلطان جائر" و"من سمع منادٍ ينادي يا للمسلمين فلم يجبهم فليس
منهم"؟! ألم يطلق أهالي غزة النداء؟ أم لم يسع الإمبراطورية الإعلامية السعودية
إيصال النداء إلى نجد، وهي التي تكفلت بإيصال الصوت العبري الى الديار النجدية"
فأين أصحاب البيانات السلفية والأصوات المتفجّرة غضباً بين رجال الدين الذين
تذيّل أسماؤهم في بيانات الطائفية؟ لم نسمع لهم تلك "الهبّة" الدينية من أجل
نصرة غزة، أم أنهم يتحركون بوحي من ساداتهم وكبرائهم حتى ضلوا السبيل إلى غزّة؟
أم أن مؤازرة المظلومين في غزة باتت خارج المسؤوليات الشرعية التي يتخفون
وراءها كلما صدرت أوامر عليا من وزير الداخلية بإطلاق البيانات الملتهبة لإحداث
بلبلة وإشعال الفتن في الأمة؟ هل يتأهبون لمرحلة ما بعد العدوان الصهيوني كيما
يبدأوا المهمة الموكلة إليهم باستئناف المهمة الطائفية، وتقسيم أمة محمد بن عبد
الله (صلى الله عليه وسلم) إلى شيع وطوائف، لمشاغلتهم عن الذين أوغلوا في دماء
غزة، وعاثوا في كرامة الأمة فساداً؟.
خطورة فتاوى اللحيدان وآل الشيخ وآخرين من علماء الوهابية لا تقتصر على كونها
إستجابة فورية ومباشرة لمطلب سلطاني فحسب، بل هي تمثّل أحد أدوات التقسيم في
الأمة. وإذا ما جرى التفكير في أبعادها الإجتماعية والسياسية والدينية فإنها
تشكّل السلاح الأخطر الذي يشهر في أشد الأوقات حراجة، فإذا لم تحل دماء غزة
التي تسيل بغزارة دون الكف عن القيام بكل ما من شأنه استباحة الأرواح الكريمة،
وهدر الممتلكات، وتشجيع الظلم والطغيان، فإن العلماء يتحوّلون إلى جبهة الخصوم
والمعتدين على حقوق الأمة، ويلزم إنزالهم في منازل يستحقونها!