
لعلّها رؤية مختلطة مشوشة تلك التي تنتاب العربي والمسلم في نظرته تجاه
موقف السعودية من فلسطين. فالسعودية تبدو وكأنها تختلف في مسؤولياتها عن دول
الطوق (المواجهة) لإسرائيل، ولكنها في صميم النظرة العربية والإسلامية (يجب) أن
تكون دول مواجهة، لأنها:
1) الدولة التي تحتضن الأماكن المقدّسة، ما يرتب عليها
مسؤوليات أبعد من إطارها الإقليمي الداخلي. فالإحتضان يفرض مسؤوليات تجاه كل
القضايا الإسلامية (من الناحية النظرية على الأقل) خاصة الموضوع الفلسطيني.
2) أن شرعية النظام السعودي الداخلية في جزء غير قليل
منها، كما هي شرعية عدد من الأنظمة العربية، قائمة على مقدار مساهمة المسؤولين
السعوديين في الدفاع عن تلك القضية. لقد أصبحت القضية الفلسطينية جزءً لا
يتجزّأ من السياسة الخارجية لكل الأنظمة العربية وبعض الأنظمة الإسلامية، ومن
الصعب التحلّل منها صراحة وعلانية. وحتى تلك الدول التي تحللت (كما فعل شاه
إيران) انتقضت شرعية أنظمة حكمها وكانت سبباً من مسببات الثورة عليها والإطاحة
بها.
3) إن السعوديين ـ الحكام ـ يطرحون أنفسهم قيادة
للعالم الإسلامي. ولا يمكن أن يكون القائد إلا طليعياً متقدّماً على غيره في
الدفاع عن المقدسات الإسلامية والشعب الفلسطيني المضطهد. ومسؤولية الزعامة
تتطلّب منهم التصرّف كأصحاب قضيّة (وليس فقط كمدافعين عنها).
المحددات
منذ اشتعال الأزمة مع المحتلين البريطانيين، وقبل قيام دولة اسرائيل، كانت قضية
فلسطين ـ أكثر من أي قضية أخرى ـ مثلت عبئاً مستمراً وصداعاً أزليّاً للحكام
السعوديين. فالقيام بالتزامات احتضان الأماكن المقدسة، وشرعنة الحكم وفق
المقاييس القومية والدينية، والتطلّع لقيادة العالم العربي والإسلامي (على
قاعدة عروبية أو دينية).. هذه الإلتزامات كانت منذ اليوم الأول لقيام دولة
السعوديين اصطدمت بقناعات ومصالح جعلت أولئك الحكام غير قادرين على الإيفاء
بإلتزاماتهم، ما بلور مع الزمن سياسة وضع خطوطها العامة الملك عبدالعزيز، وسار
عليها الملوك الأبناء الى اليوم.
لقد رسم الملوك السعوديون محددات لسياستهم الفلسطينية، يمكن وضعها في النقاط
التالية:
الأول ـ أن لا تؤدي السياسة السعودية تجاه فلسطين وبأي حال من الأحوال الى
الإصطدام بحلفاء النظام من القوى العظمى، أو حتى إغضاب تلك القوى، بما ينعكس
سلباً على النظام واستقراره السياسي. كان الحليف الأكبر للسعوديين بداية حكمهم
هي بريطانيا التي احتلت فلسطين والتي كانت تدعم النظام سياسياً ومالياً. لا ننس
هنا، أن واحداً من أهم أسباب تخلّي البريطانيين عن الشريف حسين وإسقاط مملكة
الحجاز عام 1925-1926 وسوقه منفياً الى قبرص ليموت فيها، كان موقفه من فلسطين
ورفضه إقامة دولة لليهود فيها، وهو ما كشفت عنه كتابات لورانس (العرب) الموجودة
في دار وثائق الخارجية البريطانية في كيو غاردن. والوثائق التي نشير إليها،
خاصة في فترة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) تؤكد حقيقة لا لبس فيها،
بأن الملوك السعوديين لم يكونوا في وارد التفريط بعلاقتهم مع بريطانيا من أجل
الدفاع عن قضية فلسطين. وقد رفض الملك السعودي يومها التدخل مدافعاً عن
المعتقلين أو المحكومين بالإعدام، أو تقديم الدعم المالي أو التسليحي، أو حتى
السماح بعبور المتطوعين السعوديين للقتال، بل وحتى توزيع كتب ومنشورات تحض
المسلمين على الدفاع عن فلسطين قبل أن تبتلع، وذلك في موسم الحج، كان الملك
يأمر بحرقها.
واستمر الموقف السعودي مع اميركا ـ التي ورثت النفوذ البريطاني ـ بحيث لا
يتوقعن أحد اليوم بأن يقوم الحكام السعوديون باتخاذ سياسات تؤدي الى مواجهة او
الى إغضاب الحليف الأميركي بالتحديد.
الثاني ـ أن لا يؤدي الموقف السعودي من فلسطين الى (تثوير الوضع الداخلي). ولقد
تبيّن وتأكد بأن الموقف الشعبي والديني منذ الثلاثينيات الميلادية الماضية، كما
تثبت ذلك نصوص الوثائق والنشاطات الشعبية، مختلفاً عن الموقف الرسمي بشكل كبير
يصل الى حدّ التناقض في بعض الأحيان. وقد كان الإنجليز المحتلون للهند (قبل
تقسيمها) كما الهولنديون المحتلون لأندونيسيا يتابعون نشاطات الحجاج، ويصفون ما
يوزع من كتب ومنشورات بشأن القضية الفلسطينية بأنها (منشورات شيوعية)! وكانوا
يطالبون الملك باتخاذ موقف منها، وهو ما أدى الى مصادرتها ما أمكنه، وحتى
حرقها. والسبب المضاف لذلك، هو أن الملك نفسه كان يخشى من تسرّب السخط
الفلسطيني الى الشارع السعودي نفسه.
لا يريد الحكام السعوديون أن تؤدّي مواقفهم تجاه فلسطين الى إغضاب الشارع
المحلّي، وإضعاف شرعيتهم في الحكم قدر الإمكان. ولما كان التساهل الرسمي تجاه
القضية في الخمسينيات والستينيات واضحاً، انطلقت المظاهرات، كما وقعت إضرابات
في المنشآت النفطية، وتأسست حركات معارضة كان الدافع الأساس لها: التخاذل
الرسمي من القضية.
بيد أنه لكي يبقى التوازن بين عدم تثوير الداخل، وعدم إغضاب الحلفاء الغربيين
(بريطانيا وأميركا) اعتمد الملوك السعوديون، خاصة في عهد عبدالعزيز وابنه الملك
سعود على محاور عدّة:
ـ عدم الإصطدام بالقيادات الفلسطينية المناضلة، لأن ذلك يؤدي الى خسارة مؤكدة
للنظام ومواقفه. ومع أن الملوك السعوديين عبّروا في مجالسهم الخاصة مراراً عن
كرههم لهذه القيادة الفلسطينية أو تلك، إلا أنهم ما كانوا قادرين على إخفاء
الأمر. كان هذا واضحاً في الموقف من الحاج أمين الحسيني، الى الموقف من ياسر
عرفات نفسه.
ـ محاولة استيعاب بعض القيادات الفلسطينية في صفوف طاقم السعوديين السياسي،
إبعاداً لهم عن الشأن الفلسطيني من جهة، وإظهاراً للذات بمظهر المدافع عن
فلسطين. من ذلك عزة دروزة مثلاً، وحتى أحمد الشقيري، الذي عمل مع السعوديين في
الخارجية، وكان ممثلاً للسعودية في الأمم المتحدة، قبل أن يصبح أول رئيس لمنظمة
التحرير الفلسطينية.
ـ وحتى الحركات اليسارية الفلسطينية التي لا تكنّ الود للنظام السعودي، فإن
الأخير ـ وخشية من قيامها بأعمال عنف ضده ـ قام بإيصال الدعم السرّي اليها بين
الفينة والأخرى.
الثالث ـ أن لا يؤدي الموقف السعودي من فلسطين الى الإنخراط الفعلي في الحرب مع
اسرائيل. وضمن هذا السياق يمكن فهم لماذا تخلّت السعودية عن الجزر المتنازع
عليها بين مصر والسعودية (صنافير وتيران) وذلك بعد ان احتلتها اسرائيل. ولذات
السبب يمكن فهم أسباب اختراق الطائرات الإسرائيلية المتكرر ـ وبشكل يكاد يكون
أسبوعياً ـ للأجواء السعودية فوق قاعدة تبوك في أقصى الشمال الغربي من السعودية
دون أن ترد الأخيرة عليها أو تعترضها، بل وحتى دون أن تشتكي لدى الأمم المتحدة
ومجلس الأمن، عدا مرة واحدة يتيمة تمت قبل نحو ثلاثة أعوام. ذات القضية تكررت
بشأن اختراق المياه البحرية السعودية، وقد حدث مراراً أن وصلت قوارب اسرائيلية
للمياه الضحلة السعودية وغرزت فيها، وقام العسكريون السعوديون من القوة البحرية
وخفر السواحل أنفسهم بدفعها تجاه المياه العميقة!
كل هذا ينبيء بأن السعودية ليست في وارد الإصطدام مع اسرائيل، لإدراكها العميق
بالعجز عن الرد، والخوف من اهتزاز المُلك السعودي واستقراره.
أدلجة القضية خدمة للسياسة
نُظر الى القضية الفلسطينية منذ بدايات تفجرها باحتلال بريطانيا لفلسطين، على
أنها قضية عربية/ إسلامية. وكان الفصل بين العروبة والإسلام، وبين الموقف
القومي والموقف الديني غير ممكن، فهما متماهيان. ومن يقرأ الوثائق البريطانية
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في تلك الفترة، يرى ذلك التماهي في المسميات
القومية والدينية، وقد كان الأمر كذلك لدى العرب أفراداً وقيادات، حتى أن تلك
الوثائق كانت تتحدث عن قيادات فلسطينية دينية مناضلة فتطلق عليها صفة التعصّب
القومي.
الملك عبدالعزيز رأى قضية فلسطين من خلال الصراع مع بقايا الهاشميين في الأردن
بنحو خاص. كان يتميّز غيظاً من أن يكون لأعدائه مكانة تفوق مكانته؛ بل ـ وحسب
البريطانيين أنفسهم ـ كان لدى الملك عبدالعزيز الإستعداد لأن تصبح فلسطين بيد
اليهود، من أن تكون بيد خصمه الملك عبدالله في الأردن (في هذا السياق يمكن
قراءة الملف الوثائقي للصراع الهاشمي السعودي حول القضية الفلسطينية: دور
الصراع السعودي الهاشمي في ضياع فلسطين، للدكتور تيسير كاملة).
كان الملك عبدالعزيز يرى نفسه قائداً للعرب، وأنه إذا ما كان لابد أن تقوم وحدة
عربية فتحت زعامته. هكذا قال لأمين الريحاني (انظر كتاب ملوك العرب) وأضاف:
(حنّا العرب). هذا قبل أن يسيطر على الحجاز، وحين سيطر كان لا بد أن يقول:
(حنّا المسلمين، وحنّا العرب)!
في مرحلة الستينيات الميلادية، ظهر الإنشقاق بين العروبة والإسلامية حيث تبنت
السعودية اسلامية القضية مقابل قوميتها الذي قال به عبدالناصر، وجاء ذلك على
خلفية الصراع السعودي المصري. واستمر الأمر الى أن توفي الرئيس المصري، وأصبحت
الكفة راجحة لزعامة السعودية، خاصة بعد حرب اكتوبر 1973 وطفرة أسعار النفط التي
شهدتها.
في ظل زعامة الملك فيصل، كانت القضية الفلسطينية إسلامية في بعدها، وتحجّمت
النظرة الى القضية كقضية عربية. وكان فيصل ـ دون ملوك السعودية الآخرين ـ ذا
حسّ ديني، وإن امتزج بالسياسة واستخدم لخدمة أغراضها. كان فيصل مختلفاً عن بقية
ملوك السعودية، وكان يرى وهو نائب الملك على الحجاز، بأن الصراع في فلسطين ليس
بين العرب واليهود، بل بين العرب والقوة الإستعمارية العظمى بريطانيا. ومثل تلك
التصريحات كانت تتناقلها الوثائق البريطانية، وتستغرب منها. وبقي الحسّ الديني
لدى فيصل كامناً، وتصاعد في أواخر حياته، حتى أن أحد مستشاريه ينقل عنه أن
(القدس) كانت تقتحم أحلامه في اليقظة والنوم، وكان كثيراً ما يردد مع نفسه
(القدس.. القدس). ونظراً لموقفه غير المتوقع في مسألة حظر النفط أبان حرب 1973،
تم تدبير مقتله على يد أحد أمراء الأسرة (الأمير فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز).
والمؤكد حسب المعطيات ـ غير الصحافية ـ أن فيصل قتل بالتآمر بين فهد والسي آي
أيه. على الأقل فإن بعض أبناء الملك فيصل (محمد مثلاً) يؤكد ضلوع فهد في ذلك.
والثابت أيضاً أن عشيقة قاتل فيصل وهي أميركية واسمها سارة، كانت عميلة للسي آي
أيه. والثابت ثالثاً، أن قاتل فيصل اتهم بالجنون وكان فهد (ولياً للعهد يومئذ)
لا يريد أن يعدم القاتل، ولكنه فعل بإصرار الملك خالد. وحين أعدم القاتل، لم
يكن السبب أنه قتل الملك، ولكن لأنه (مفسد في الأرض) وقد رفض علماء الوهابية
إدانة القاتل بالقتل، رغم وجود شريط كاميرا التلفزيون التي كانت حاضرة تصور
عملية الإغتيال!
في عهد فهد (وبدأ بعد مقتل فيصل مباشرة لأن الملك خالد كان ملكاً إسمياً)
انتقلت القضية الفلسطينية من كونها قضية اسلامية، الى قضية قومية، وجاء عهد
عبدالله ليؤكد هذا المعنى مراراً ويلقيه على مسامع القيادات الدينية والسياسية
الفلسطينية. والسبب هو تنامي الدور الإيراني في القضية الفلسطينية.
في عهد فهد، تردّى الموقف السعودي كثيراً من القضية، وبدا أنه يريد التحلّل
منها بأيّة وسيلة كانت. كانت المناسبة الأولى اجتياح لبنان عام 1982 وحصار
بيروت ووقوع مجازر صبرا وشاتيلا. وفيما كان الملك خالد متألماً، كان فهد ـ ولي
العهد ـ يضغط باتجاه التخلص من المشكلة تمهيداً للصلح مع اسرائيل، خاصة وأنه
طرح مشروعاً في قمتي فاس عامي 1981 و 1982 للسلام مع اسرائيل، رفض في المرة
الأولى، ونجح في المرة الثانية بالضغط السياسي والمالي السعودي. وفي غياب مصر
بعد زيارة السادات لاسرائيل عام 1978، وتوقيع كامب ديفيد 1979، كان السعوديون
يستشعرون الوحدة، وهم كانوا ضد الزيارة وقطع العلاقة مع مصر (مؤتمر بغداد)
مضطرين، وكل خلافهم مع السادات أنه لم يشاورهم، كما قال فهد نفسه.
تذبذبت المواقف السعودية في الثمانينيات الميلادية، وكلها كانت تصب في
الإستهلاك السياسي، فمرة دعا فهد الى (الجهاد المقدس) ومرة الى (مشروعه للسلام)
ومرة ثالثة كان الموقف السعودي من الإنتفاضة الفلسطينية عام 1987 هو التجاهل،
مع الإبقاء على المحددات المعروفة تجاه القضية والتي أشرنا اليها.
بغزو الكويت عام 1990م أتيحت للملك فهد الإعلان علناً ولأول مرة نقد القيادة
الفلسطينية، واستثمار الموقف الفلسطيني الرسمي الداعم لصدام حسين للتحلل من
القضية، والترويج لذلك عبر الإعلام والكتابات الصحافية، والتي تكرس مقولة:
(الفلسطينيون لا يستحقون الدعم) وأننا ـ كسعوديين ـ فعلنا ما علينا، بل وصل
البعض الى الحديث عن العداوة لفلسطين والقضية برمتها.
وبدأت مرحلة أخرى مع مؤتمر مدريد، حيث أوكل الأميركيون للسعوديين تهيئة الجو
والمشاركة لحل القضية سلمياً، وإقناع الجناح العربي بالتنازل وضمن هذا الحد كان
يفترض إعادة العلاقات ولو بشكل محدود مع ياسر عرفات وفريقه. كان المطلوب من
السعودية القيام بدور الممول لأي خطط بديلة تتعلق بالفلسطينيين وتوطينهم، في
حال تم توقيع اتفاق. ومع هذا لم يقم السعوديون منذئذ بدعم القضية مالياً إلا في
حدود الإضطرار.
ببروز دور حماس والقوى المقاومة، شعرت السعودية بأن مشروعها للتخلص من القضية
سيكون مستهدفاً. ولما تأكدت بأن لعرفات يد في الإنتفاضة الثانية، ولما وجدت أن
الموقف الغربي يميل الى التخلص منه، ساهمت في ذلك وأهملت استغاثاته وهو محاصر
في رام الله الى أن قضى مسموماً، مؤملة وصول قوى أكثر اعتدالاً تتجاوب مع
الأطروحات الغربية الإسرائيلية، ولهذا أولت محمد دحلان بالذات ومن هو على
شاكلته عناية ودعماً فائقين، تماماً مثلما فعل الغربيون والإسرائيليون.
ومع تصاعد الدور الإيراني في غياب دور عربي فاعل وفشل عملية السلام (وأوسلو)
انقلبت السعودية على كل قوى الممانعة، حماس وحزب الله وحتى سوريا التي كادت
العلاقات معها تنقطع، بل أنها مولت في 2008 انقلاباً عسكرياً ضدها، وحاولت
تشجيع قبائل سورية للإنقضاض على النظام، بل أنها دعمت علناً المعارضة السورية
بشكل شبه علني.
الدور الإيراني ونجاح المقاومتين في لبنان وغزة، وسقوط الرهان على إسقاط النظام
في سوريا وطهران، حفّز الدور السعودي ولكن في الإتجاه المعاكس، بحيث توسعت
العلاقات مع اسرائيل عبر بندر بن سلطان وتركي الفيصل ومقرن بن عبدالعزيز رئيس
الإستخبارات. الورقة الفلسطينية فاعلة كما يدرك السعوديون، وهم يتألمون لأنهم
أخرجوها من بين أيديهم. والرؤية السعودية القائمة تقول بضرورة التحلل من قضية
فلسطين وإنهائها بأي شكل وبدون حد من التنازل (أقل حتى مما ورد في المبادرة
العربية) وذلك للتفرغ للخطر الإيراني. رؤية السعوديين تقول بأن الورقة
الفلسطينية تمثل ضغطاً سياسياً هائلاً عليهم، وإذا لم تتحلحل فإن ذلك يعني
نجاحاً لإيران وإخفاقاً للعرب. هذا هو رهان السعودية.
كان طبيعياً أن يتخذ السعوديون موقفاً تحريضياً ضد حماس وهي تواجه عدوان
اسرائيل، مثلما فعلوا في لبنان مع حزب الله أثناء حرب تموز 2006، فالصراع بنظر
السعودية ليس مع اسرائيل، وإنما مع إيران، وهذا ما يروج في الإعلام السعودي
المحلي والخارجي. الخطر حسب رأيهم ليس من اسرائيل وإنما من طهران ومشروعها
النووي، وتمدد نفوذها السياسي على حساب السعودية ومصر وقوى الإعتدال الأخرى.
الخسارة السعودية
لا أحد يستطيع أن يمنّ على فلسطين وأهل فلسطين بالدعم. فهذه القضية بالتحديد
أعطت من ساهم فيها أضعافاً مضاعفة. تكاد لا توجد قضية قدّمت خدمات جلّى للعرب
مثل القضية الفلسطينية، التي أضحت طعمة على موائد اللئام. لا يعلم كيف سيكون
حال العرب لو لم تكن هناك قضية فلسطينية تبقي الحدّ الأدنى من روح المقاومة
لثنائي الإستبداد والإستعمار، والحد الأدنى من الرابطة القومية والدينية، وتنشط
الجسد الذي أراد له الغرب والحكام أن يكون ميتاً معطّلاً.
من أعطى فلسطين أو ساعد شعبها، فإنه نال جزءً مضاعفاً وبأسرع مما توقّع. وحتى
الأثمان السياسية التي يتحملها الداعم للقضية، فإنه يجد أن ما يحصل عليه تبعا
لذلك ـ بعيداً عن الموقف الديني والأيديولوجي ـ لا يقل عما تحمله.
نقول هذا، مقابل ما يمنّ به السعوديون وبشكل متكرر في صحافتهم واعلامهم بشأن
القضية الفلسطينية. ونقول هذا، لمن يتساءل دائماً: إن موقف هذا النظام أو تلك
الجهة من جهة دعم الفلسطينيين إنما جاء لمصالح سياسية. نعم هناك منفعة وهناك
ثمن يدفع. والسؤال الصحيح: إذا كانت القضية بهذا النفع، فلماذا لم يستثمر فيها
العرب، معظمهم على الأقل؟!
من الإلزام بالتبرع لفلسطين في المدارس منذ الخمسينيات وحتى بداية السبعينيات،
الى منع التبرّع أصلاً.. مرحلة زمنية قطعها السعوديون، لمنع التفاعل الشعبي مع
القضية.
ومن تغطية جزءً من مشروعية حكمهم عبر دعمها، الى المواجهة الصراح مع أصحابها
والمعنيين الأساسيين بها فلسطينيين وسوريين ولبنانيين، مرحلة زمنية خسرت خلالها
السعودية قدراً وافراً من نفوذها السياسي الإقليمي والإسلامي، وتضررت بشكل حاد
في سمعتها بين شعوب المسلمين، كما خسرت تلك المشروعية المحليّة التي جرّأت
الكثيرين في الداخل والخارج على وصم النظام بالعمالة والممالأة للغرب واسرائيل.
وبالنسبة للسعوديين كمجتمع بالذات، فإن فلسطين أعطتهم الشيء الكثير، ويمكن
إدراج ملاحظات عابرة وسريعة في هذه الورقة:
ـ لقد ساهم النضال الفلسطيني مبكراً في تعزيز الوعي السياسي لدى السعوديين،
خاصة في أماكن تواجدهم في المنطقة الشرقية حيث آبار النفط ومنشآته. فقد كان
الوجود الفلسطيني المكثف على شكل عمال ومدرسين، النافذة التي أطل منها الشعب
على أمته، وعلى قضاياها، وعلى ما يدور في العالم من مؤامرات تحاك ضده وضد
أشقائه.
ـ لقد علّم الفلسطينيون السعوديين أساليب المقاومة، فعبر مساعدتهم شكلوا
أحزابهم السياسية بمختلف أنواعها ابتداءً من أواخر الخمسينيات الميلادية
الماضية وبداية الستينيات. كما تعلّموا منهم الإضرابات والإعتصامات وتشكيل قوى
الضغط وغيرها. ولعلنا نذكر هنا بدور الفلسطينيين في إضرابات عمال النفط في
منتصف الخمسينيات (1954، و 1956) وهو موثّق في الوثائق البريطانية لتلك
المرحلة، ما استتبعه اعتقال وتعذيب وطرد المئات منهم. إن المظاهرات والإضرابات
التي حدثت في الستينيات أثناء حرب حزيران 1967 وغيرها والتي شملت مدن المنطقة
الشرقية ما كانت لتأتي لولا التأسيس الفلسطيني وما كان يوصله من أدوات ثقافية
محظورة (كتب ومنشورات) الى الداخل السعودي، وجعل القضية قضية تهم كل الشعب
العربي.
ـ ولقد استقى الطلاب السعوديون ـ وهم في عمر الزهور ـ كثيراً من معاني الرفض
والمقاومة من خلال أساتذتهم الفلسطينيين الذين كانوا في فترة الستينيات بالذات
أكثرية في المدارس السعودية، وكان النشاط المدرسي مسيّساً تجاه القضية بشكل
كبير. فالأناشيد الفلسطينية والتمثيليات والرسوم، وغيرها استخدمت في تلك
المرحلة ما ولّدت أجيالاً حفرت في ذاكرتها عناوين القضية الفلسطينية.
لهذا كله، فإن السعودية كحكومة، تخسر كثيراً من مكانتها وشرعيتها ونفوذها بسبب
تخليها عن القضية أو الوقوف موقف المتفرج منها، أو الطعن في رموزها والمقاومين
فيها. ولن تكون هذه الخسارة مرحلة عابرة، فإن العودة عن السياسة الحالية تتطلب
زمناً (للترقيع) فيما لو قرر الحكام السعوديون ذلك، ولا أحسبهم فاعلين.
القضية الفلسطينية لا تموت، وإنما يموت من لا يدعمها.