
تتجه السياسة الرسمية للمملكة العربية السعودية حثيثا باتجاه التطبيع مع
الكيان الاسرائيلي مستهدفة ازالة العوائق التي تمنعها من ذلك واضفاء الشرعية
السياسية على خطواتها.
وقد تسارعت هذه الخطى في العقد الاخير مستفيدة من العدوان الاميركي السافر على
العراق وانتشار مئات الآلاف من الجنود الاميركيين فوق الارض العربية ، بصفة
احتلال مباشر او عبر قواعد تتنافى مع السيادة الوطنية للدول المضيفة وتتعارض مع
ارادة مواطنيها.
واذا كان الطريق الى القدس المحتلة ليس ممهدا لحكام السعودية ولا يملكون من
الجرأة والظروف التي مكنت الرئيس المصري انور السادات من زيارة القدس وتجاهل
ميراث طويل من الالتزام الوطني والقومي لمصر وجيشها وشعبها، فان النظام الملكي
يسير الى الهدف ذاته بطريق متعرج ويملك من طول النفس والقدرة على الانتظار ما
يجعله يتحين الفرصة لذلك.
ومن هنا فان ما يبدو من تراجعات في الاقدام السعودي نحو المصالحة مع الكيان
الصهيوني ليس الا من قبيل التكتيك السياسي الذي يخدم الهدف الاستراتيجي الذي
ربط حكام السعودية انفسهم به منذ وقت طويل.
وفي قراءة متأنية لمسيرة السياسة الخارجية السعودية تجاه القضية الفلسطينية
يمكننا ان نتلمس هذا الخط الثابت المتمثل في:
أولاً: العمل على اجهاض المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني.
ثانياً: محاولة عزل الشعب الفلسطيني عن الشعوب العربية ومنع أي حركة داعمة له
في دول الجوار.
ثالثاً: طرح المشاريع السياسية التي تخفض سقف المطالب وتغيّب الحقوق الوطنية
المشروعة للشعب الفلسطيني.
وقبل استعراض الوقائع الدالة على هذه السياسة الثابتة للنظام السعودي نشير الى
ضرورة قراءة الشعارات الصهيونية والاهداف المرحلية لليهود في مسيرة احتلالهم
لفلسطين ضمن استراتيجيتهم للسيطرة على المنطقة بكاملها.
اذ ليس من الصدفة ان تتلاقى اهداف الصهيونية مع سياسات محور السلام والاعتدال
العربي والمتمثل خصوصا في النظامين السعودي والمصري، بل ان هذا التناغم يوحي
بوجود تحالف مضمر لم يجد بعد الفرصة لكي يسفر عن وجهه الا انه يجب الا يكون
خافيا على التحليل المنصف والعميق.
إشارات ذات دلالة
ولفهم حقيقة ما يدور في دهاليز السياسة السعودية تجاه الصراع مع اليهود يكفي
التأمل في تصريحات الامير تركي الفيصل بوصفه القيِّم السابق على أسرار بلاده
وأمنها وسفيرا بارزا لها في واشنطن ولندن فضلا عن أنه يتولى الآن رئاسة مؤسسة
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
ففي أعقاب ندوة لمؤسسة بيرلتزمان بألمانيا أدلى الفيصل بتصريحات نقلتها صحيفة
الخليج بتاريخ 21/1/2008 قال فيها ان عرض المبادرة العربية للسلام الشامل مع
إسرائيل لا يزال قائماً، وإن العالم العربي تجاوز بمبادرة عام 2002 بشكل حاسم
مرحلة العداء ومد يد السلام إلى إسرائيل... وأن العرب وإسرائيل يمكن أن يتعاونا
في جميع المجالات ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة والزراعة والعلوم والتربية.
وشدد الفيصل على رغبة العرب في السلام قائلا: ان كثيرا من العرب ينتظرون
بشغف الفترة التي ستعقب توقيع اتفاقية السلام.
الا ان الاغرب في كلامه قوله: لقد بدأنا في النظر إلى الإسرائيليين بوصفهم
يهوداً عرباً بدلاً من اعتبارهم مجرد إسرائيليين، مشيرا الى ادماج اسرائيل في
المحيط العربي. وأبدى الامير السعودي أسفه مشيرا الى انه أصيب بخيبة أمل في
الماضي عندما تأتي الفرص وتضيع. معربا عن الامل بأن يتحقق تبادل الزيارات بين
الشعب الإسرائيلي وشعوب الدول العربية.
وفي تصريحاته بتاريخ (21/5/2008) خلال انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في
البحر الميت – الأردن قال صراحة ومن دون مواربة: يجب على أشقائنا الفلسطينيين
أن يتوقفوا عن القتال. أدعوهم أيضاً إلى وقف قتال إسرائيل بالوسائل العسكرية.
ولعل هذه التصريحات واضحة الدلالة في التعبير عن الموقف السعودي الرسمي الذي
اوكل التعبير عنه الى امراء من الصف الثاني لجس النبض وتهيئة الشارع العربي لما
هو آت، اذ ان الامير تركي لا يعبر عن أي موقف عربي ولا هو مخول بذلك عندما
يتحدث عن انتظار العرب بشغف للفترة التي تعقب السلام، بل هو شغف سعودي ليس إلا.
صدى الموقف الاميركي
ان هذا السفور في الموقف السعودي جاء تحت ضغط مباشر من الادارة الاميركية التي
اوغلت كثيرا في معاداتها للموقف العربي والانحياز للموقف الصهيوني منذ وصول
جورج بوش والمحافظين الجدد الى البيت الابيض.
ففي اول خطاب له في الامم المتحدة بعد هجمات نيويورك استغل الرئيس الاميركي
حالة التوتر في المجتمع الاميركي والتعاطف الدولي ضد هجمات أيلول (سبتمبر)
ليطلق شعارا لم يقف عنده الكثيرون، حيث قال انه منذ الان لم يعد مسموحا لاحد ان
يحمل السلاح بحجة استرداد الحقوق الوطنية. ومنذ ذلك الحين لم تعد السياسة
الاميركية تميز بين حركات التحرر الوطني التي تقاتل لاستعادة حقوقها ومقاومة
الاحتلال الاجنبي وبين الارهاب، في خطوة تستهدف بوضوح المقاومة الفلسطينية
والعربية للاحتلال الاسرائيلي.
وقد عمدت الادارة الاميركية السابقة الى اشغال العالم بحربها على الارهاب ورأت
ان القضية الفلسطينية التي يتمحور حولها النشاط السياسي العربي يجب ان تتنحى
الى مركز خلفي في سلم الاهتمام.
واستجاب هذا الفهم لاستراتيجية صهيونية ترى ان مستوى الانحدار بات كافيا لاعلان
انهاء القضية وتحويلها من قضية شعب واحتلال الى تنازع على الارض والسيادة بين
شعبين ضمن موازين قوى تعطي الافضلية للطرف اليهودي.
وسرعان ما وجدنا صدى هذه السياسة العدوانية صريحة في المواقف السعودية صراحة او
مداورة. اذ تبنت الخارجية السعودية سياسة اهمال للقضية الفلسطينية ودفعها لتكون
من الدرجة الثانية، وسارت المملكة في هذا الركب في مرحلة مرض الملك فهد وبروز
مراكز قوى في العائلة المالكة اضعفت سيطرة الملك على السلطة.
تناقضات الموقف السعودي!
فهل نجحت استراتيجية تهميش القضية الفلسطينية ام ان محاولات السعودية ابراز
واختلاق مشاكل اخرى في المنطقة اكد مرة اخرى ان كل النزاعات فرع لحقيقة واحدة
هي القضية الفلسطينية وتشعباتها؟
تسعى المملكة العربية السعودية الى تأكيد أن موقفها من القضية الفلسطينية هو من
الثوابت الرئيسية لسياستها منذ عهد الملك عبد العزيز، بدءا من مؤتمر لندن عام
1935 المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة القضية الفلسطينية، إلى اليوم.
وتؤكد انها قامت بدعم ومساندة القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها وعلى جميع
الأصعدة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) وتربط ذلك بما تعتبره واجبا تمليه
عليها عقيدتها وضميرها وانتماؤها العربي والإسلامي.
وتكرر البيانات الرسمية التذكير بتبني النظام الملكي القرارات الصادرة بحق
القضية الفلسطينية والدفاع عنها في المحافل الدولية، وجعلها جزءا من اساسيات
البنود التي تقوم عليها سياساتها الخارجية وعلاقاتها بالقوى الدولية
والاقليمية، وترفق المصادر السعودية الكلام بلوائح وجداول بحجم المساعدات
المادية والعينية التي سلكت طريقها للمؤسسات الفلسطينية في فترات زمنية مختلفة،
وعلى مدى السنوات الستين الماضية من عمر المأساة الفلسطينية المستمرة. كما يجنح
البعض بعيدا للحديث عن مساهمات المملكة العسكرية في الحروب مع العدو الاسرائيلي
وامداد الجيوش العربية والمنظمات الفلسطينية بالعدة والعتاد.
وبالرغم من ان اللهجة التي يجري الحديث فيها رسميا تتسم بالتعالي، متناسية ان
هذه المواقف هي اقل بكثير من المطلوب من أي جهة عربية واسلامية معنية بالقضية
الفلسطينية... ومتغافلة عن ان القرارات الدولية هي خلاصة مساومات طويلة افرغت
من كل مضمونها الايجابي ليأتي الرفض الاسرائيلي لها والامتناع عن تطبيقها
وتنفيذ مضمونها ليجهز على كل ما تبقى من ايجابيات تقر الحق الفلسطيني فيها...
وبالتالي فان الموقف العربي المطلوب هو تبني الموقف الفلسطيني وليس الاكتفاء
بالموقف الدولي ودفع الفلسطينيين الى التراجع والقبول به والتنازل شيئا فشيئا
عن حقوقهم تحت الضغوط الخارجية... بالرغم من كل هذه الملاحظات السريعة، فإننا
نرغب بالابتعاد الان قليلا عن جدل يطول الحديث فيه وخصوصا في مجال الدعم
العسكري الموهوم، وغير الموجود، وغير الفاعل في أي حال والذي لا يمكن وصفه الا
بأنه للمزايدة الاعلامية ولستر العجز الحقيقي عن الاضطلاع بالواجب القومي
لتحرير فلسطين.
ولكي نتجنب ايضا الحديث عن الدعم المادي وما يجره من تتبع لهذه الاموال الى
مسارب الفساد والصفقات المشبوهة وتمويل التناقضات والخلافات والحروب الداخلية
والفتنة بين ابناء الشعب الفلسطيني الواحد، خلف ستار سد جوع المشردين وستر
عريهم، وهو ما لم يبدل الواقع المأساوي لملايين الفلسطينيين في داخل الوطن
وخارجه في مخيمات البؤس والعوز والحرمان...
لكل ذلك فاننا سنقصر البحث على الدعم السياسي السعودي للقضية الفلسطينية والذي
يتجلى في مواقف سياسية بارزة لا تخفي المسيرة التفصيلية للجهد الديبلوماسي
السعودي المثبط لنضال الشعب الفلسطيني والمحبط لآماله وتطلعاته.
ان هذه المواقف التي تأتي باسم مبادرات سياسية، والاتجاه التصاعدي في الحملة
المضادة لحركة الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه الوطنية، تعطي صورة متناقضة
وخادعة في بعض الاحيان.
فمن جهة يبدو مستغربا ان تضطلع المملكة العربية السعودية بهذا الدور التسووي
وتبدو وكأنها تلعب دور الوسيط بين الحق الفلسطيني والاحتلال الغاصب لارض
المسلمين ومقدساتهم والمشرد لجزء كبير من ابناء الامة، ولعل الحرج يتأتى من كون
السعودية حاضنة لمقدسات المسلمين العظيمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
والمفترض ان تتجنب القيادة السعودية أي شبهة بالتفريط بحق اسلامي اذا ما ارادت
ان تكون منسجمة مع شعاراتها وما تقول انها الاسس التي أقامت عليها دولتها
الحديثة. ومن جهة اخرى فان السعودية لم تكف عن احتضان قوى الاستسلام والخضوع
للامر الواقع الاسرائيلي بينما هي تناصب بالعداء القوى التي تناهض المشروع
الصهيوني في المنطقة.
المبادرات السياسية السعودية
والمدافعون عن مواقف المملكة السعودية يعجبهم ان يذكروا في هذا الصدد محطتين
بارزتين هما:
1- مشروع الملك فهد للسلام.
2- مشروع الامير عبدالله للتسوية.
المبادرة الاولى المعروفة باسم مشروع الملك فهد للسلام قدمت في مؤتمر القمة
العربي الذي عقد في مدينة فاس المغربية عام 1982، حيث وافقت عليها الدول
العربية وأصبحت أساساً للمشروع العربي للسلام وتقوم على عدد من المبادئ منها:
1- انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها مدينة
القدس.
2- إزالة المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة.
3- تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب في العودة.
4- إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس مع ضمان حق الوصول الى اماكن
العبادة للجميع.
5- تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام.
اما مبادرة الأمير عبدالله (ولي العهد السعودي حينها) التي تبنتها قمة قمة
بيروت (في آذار/مارس 2002) فتتلخص بـ:
- 1 الانسحاب من الأراضي المحتلة حتى حدود 4 حزيران (يونيو) 1967م .
- 2 قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس.
– 3 اعتراف عربي بالدولة الاسرائيلية واقامة علاقات طبيعية معها.
وقد اكتنف الغموض قصية اللاجئين التي لم ترد في النسخة الاصلية الا ان اصرار
الجانب اللبناني خصوصا وبعض الاطراف الاخرى الداعمة ادى الى ادخال بند حول:
- 4 حل قضية
اللاجئين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.
ولنفترض حسن النية في المبادرة السعودية بمرحلتيها الا ان المبادرة، أي مبادرة،
تستهدف امرين اساسيين:
1ـ انها تعبر عن حسن نية مطلقها والموقعين عليها تجاه القضية المعنية.
2ـ انها تحاول ان تجد مخرجا لازمة استعصت على الحلول التقليدية التي جربت لوضع
حد لها.
وضمن هذه الحدود فان المبادرة حققت هدفها الاول بأن اكدت للمجتمع الدولي والقوى
الفاعلة فيه ما ليس بحاجة الى تأكيد اصلا، ان العرب راغبون في السلام وطالبون
له ومكتفون به، وها هم يقدمون نصيبهم من التنازل من اجل التسوية، وحقيقة ما
قدموه يدخلهم في دائرة المفرطين في الحق التاريخي والشركاء في اضاعة جزء من ارض
الامة والغاء هوية شعب مسلم.
وهي ليست المرة الاولى التي يبدي فيها العرب والمسلمون حسن النية والرغبة في
التعاون مع المجتمع الدولي لانهاء الصراع المسلح في فلسطين. بل ان تاريخ القضية
الفلسطينية الحديث ومنذ نشأتها هو سلسلة من التنازلات العربية لابداء حسن النية
والثقة غير المبررة بالقوى الكبرى التي تنتهي بخديعة. فضاعت فلسطين تباعا بل
وضاعت معها هيبة الامة وتضحيات شعوبها عقدا بعد عقد وتجربة بعد تجربة.
ولعل ما يفيد هنا استرجاع موقف سعودي محدد في مجال المبادرة للتسوية والانحياز
لرغبة القوى الكبرى والتضحية بنضالات وتضحيات وآمال الشعب الفلسطيني لعله يكون
عبرة لمن يريد الاعتبار.
فحينما أرسل الملك عبد العزيز ابنه الامير فيصل ومن قبله الامير سعود، قبل ان
يصبحا ملكين، إلى القدس للتأكد من إيقاف الثورة الفلسطينية خدمة لصديقته
بريطانيا وتمكيناً لقيام دولة اليهود، اجتمع الامير فيصل بقيادة فلسطين في
القدس الشريف وقال لهم ما حرفيته:
"حينما أرسلني والدي عبد العزيز في مهمتي هذه إليكم فرحت فرحتين: الفرحة الأولى
كانت من أجل زيارة المسجد الأقصى والصلاة في بيت المقدسز أما الفرحة الثانية
فكانت فرحتي بلقاء هؤلاء الثوار لأبشّرهم أن جهودهم لم تذهب سدى وأن ثورتهم قد
أثمرت بإثارة اهتمام صديقتنا بريطانيا العظمى التي أكدت لوالدي حينما رأت
اهتمامه بفلسطين إنها لن تخيب آمال الفلسطينيين. وبناءً على ما عرفته من صدق
نوايا بريطانيا أستطيع أن أقسم لكم بالله أن بريطانيا صادقة فيما وعدتنا به وأن
بريطانيا تعهدت لوالدي أنها عازمة على حل القضية الفلسطينية".
ولا ضرورة للتعليق على ما آلت اليه هذه الوعود البريطانية وما اسفرت عنه هذه
الثقة بالدولة الكبرى والمجتمع الدولي من آثار كارثية على الامة والشعب
الفلسطيني خصوصا. ولكن يبقى للمراقب الحق في التساؤل عما اذا كان الامر مجرد
قصر نظر وجهل بالسياسة الدولية، ام ان الامر يتعدى ذلك الى حد الولوج في دور
مرسوم للاعبين صغار ضمن لعبة كبرى؟
كان ذلك في عام 1936 عندما كانت فلسطين مستعمرة من قبل الانكليز وكان الشعب
آنذاك في حالة ثورة وتمرد وعصيان وإضراب شامل استمر 183 يوماً، حيث لم يستطع
الاستعمار وقتها من إيقاف هذه الثورة وإنما لجأ إلى أساليب القمع والسجون
والتشريد، ولما عجزت عن كسر طوق ذلك الإضراب حاولت الحكومة البريطانية في 8
أيار (مايو) 1936 أن تخفّف من الاستياء الشعبي (بإيفاد لجنة تحقيق ملكية لتحري
أسباب الثورة ووضع الحلول المناسبة) لكن عرب فلسطين رفضوا هذه اللجنة وحلولها.
ثم لجأت إلى الأمير عبد الله حاكم الأردن لفك الإضراب ومن بعده إلى ملك
السعودية الملك عبد العزيز آل سعود الذي بعث برسالة إلى الفلسطينيين كتبها
مستشاره جون فيلبي باسم القادة العرب جاء فيها "إلى أبنائنا الأعزاء عرب
فلسطين... لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين. فنحن بالاتفاق مع ملوك
العرب والأمير عبد الله ندعوكم للإخلاد إلى السكينة وإيقاف الإضراب حقناً
للدماء. معتمدين على الله وحسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها
المعلنة لتحقيق العدل وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم".
ويقول تقرير نشرته منظمة التحرير الفلسطينية نقلته الصحيفة المصرية "آخر ساعة"
عن هذه البرقية أو النداء انها "هي التي استطاعت أن تجهض الروح الكفاحية
العالية للشعب الفلسطيني التي سادت طوال السنوات السابقة كرد طبيعي وثوري على
محاولات تهويد فلسطين وذلك حين تمكن من أن يبدل الأسلوب الثوري بأسلوب المساومة
والتنازلات بالاعتماد على نوايا الدول الاستعمارية وهي نفسها التي خلقت
إسرائيل. لقد كان هذا النداء بمثابة المحاولة الأولى لسحب القضية الفلسطينية من
تحت أقدام أبنائها ودفع النضال الفلسطيني بعيداً عن مرتكزاته الفعلية".
ان العودة الى هذه الجزئية في الموقف السعودي لا تغني عن توثيق دقيق لمجمل
المواقف والسلوك العام للمملكة تجاه القضية المركزية القومية، ولكنها تعطي
مثالا ومؤشرا الى ما سوف نصل اليه من رسم نسق سياسي متكامل حكم سياسة المملكة
طيلة العقود الستة الماضية. كما انها تكاد تصف ما يجري اليوم بأساليب مختلفة
وتحت ستار كثيف من الدخان الاعلامي التضليلي.
ويبقى التركيز على المبادرتين الصادرتين عن المملكة باعتبارهما وثائق معلنة غير
قابلتين للتشكيك والتفسير والنفي.
كيف اصبحت التسوية هدفا بحد ذاتها؟
وفي كل الاحوال فان القاعدة العامة هي ان المبادرة تبقى ذات هدف محدد ولا تتحول
ابدا الى عقدة او عقبة امام التحرك الوطني والسياسي، كما انها لا تأخذ صفة
الديمومة والمقدس في العمل السياسي، هذا ما هو بديهي في الفكر والتجربة القريبة
والبعيدة، ولنا في تاريخ القضية الفلسطينية خير مثال: فكم هو عدد المبادرات
التي تقدم بها اطراف عديدون بمختلف التوجهات والنوايا والتي سعت الى ايجاد حل
وفشلت ثم انتهى الحديث عنها وأزيحت الى رفوف المكتبات وزوايا الذاكرة والحفظ؟
بل ان المبادرات الحديثة جدا التي اطلقتها ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج
بوش قبل بضع سنوات دخلت عالم النسيان وجرى تجاوزها رسميا وفعليا لعدم جدواها
وفعاليتها، او لانها استهلكت وأدت وظيفتها السياسية في مرحلة معينة.
والمبادرة السعودية ليست استثناء ولا يجب ان تكون، اذ انها منيت بالفشل الذريع
منذ اللحظة الاولى لولادتها في العاصمة اللبنانية، حيث كان على العرب حينها ان
ينتفضوا لكرامتهم ويبادروا الى تجميد مبادرتهم ان لم يقدموا على ما هو اكثر من
ذلك باتخاذ اجراءات عسكرية وسياسية فاعلة للرد على التحدي الاسرائيلي الفاضح
بعد ساعتين من اعلان المبادرة.
حينها تقدمت الدبابات الاسرائيلية لتطويق مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله
وراحت تدمر المقر الذي حوصر فيه الرئيس الفلسطيني الشرعي والرمز التاريخي لنضال
الفلسطينيين الراحل ياسر عرفات، والذي تحول الى رهينة لا حول لها ولا قوة... لا
ناصر لها ولا معين الا عزمها وارادتها وايمانها بحق شعبها التاريخي وارادتها
بعدم التفريط بهذا الحق مهما كانت التضحيات.
ومع ان التسوية والمبادرات السياسية هي وسائل لتحقيق هدف اكبر فانها في المنهج
السعودي صارت هدفا بحد ذاتها تحارب السعودية من اجله وتعادي وتخاصم بحسب الموقف
منه.
ومع ذلك فان احدا في الدنيا لم يأخذ هذه المبادرة على محمل الجد، ولم تتحول الى
حدث عالمي ذي قيمة بل ان اللجنة التي شكلت للترويج للمبادرة والشروع بتحرك
سياسي على اساسها انكفأت وارتدت على عقبيها بعد ان رفضت العواصم مجرد
استقبالها، ودخل اليأس الى نفوس اعضائها قبل ركوبهم اول طائرة الى الخارج.
والاهم ان الادارة الاميركية التي سلمها العرب قيادهم ومنحوها فرصة التحكم
بتسعة وتسعين من اوراق اللعبة في المنطقة منذ عهد الرئيس المصري الراحل انور
السادات، لم تعر مبادرة العرب أي انتباه ولا اخذت تنازلاتهم مأخذا حسنا.
ويبدو من هذا الاستعراض المنحى التنازلي في المواقف السعودية وكيف اصبحت
المبادرات المتتالية تحمل التنازلات والاقتراب من الهدف الاساسي للصهيونية، وهو
الاعتراف باسرائيل والتطبيع معها ومن ثم البحث في جوهر القضية باعتباره مجرد
خلاف وتنازع بين افرقاء لهم حقوق متساوية.
لذا فانه ليس من مفاجأة في مجاهرة الجانب الاسرائيلي بطلب التطبيع مع بعض الدول
العربية وبالاخص السعودية ليس مقابل اي مطلب عربي جوهري بل لمجرد تجميد موقت
للاستيطان، ما يذكرنا بالموقف الاسرائيلي الداعي الى السلام مقابل السلام وليس
مقابل الارض او الحقوق.
ولكن القيادة السعودية وضعت نفسها تماما في خدمة المشروع الاميركي في المنطقة
سواء ما تعلق بالجانب الفلسطيني او في جوانب اخرى.
لقد كان مقززا منظر الامراء السعوديين وهم يستقبلون رئيس الولايات المتحدة
الاميركية في رحلة سفاري في عمق الصحراء ليرقصوا معه العرضة السعودية وليقدموا
له الهدايا بعد ايام قليلة من اعلان الامم المتحدة ان الغزو والاحتلال
الاميركيين للعراق اسفر حتى العام 2006 عن 750 ألف قتيل عراقي، لا اعتقد
ان جميعهم ارهابيون قضوا في الحرب الاميركية على الارهاب التي هي الاسم الكودي
لحرب المحافظين الجدد والصهاينة على الاسلام والمسلمين. وكان مقززا ومستهجنا ان
يجري هذا الاستقبال الشخصي الحميم لما اصبح يوصف فيما بعد حتى لدى الكتاب
الاميركيين بأسوأ الرؤساء الاميركيين واغبى القادة على الاطلاق، وبعد ايام
قليلة من تنفيذ الادارة الاميركية عبر الآلة العسكرية الصهيونية ابشع المجازر
واوسع الدمار بحق اللبنانيين في حرب تموز 2006.
وبالرغم من كل ذلك فان الادارة الاميركية ظلت تتجاهل القيادة السعودية بينما
تزداد هذه القيادة التصاقا بالمشروع الاميركي في المنطقة، بل وفي مدى اقليمي
اوسع.
من هنا صار لا بد من الحديث عن دور موكل لهذه القيادة في سياق المخطط
الاستعماري الذي تقوده الصهيونية العالمية للتحكم بالمنطقة انطلاقا من استعمار
فلسطين وطرد اهلها وصولا الى تدمير الهوية الثقافية والتاريخية لشعوب المنطقة.
كيف يتجلى هذا الدور السعودي؟
لا يخفى على المتابع ان القوى الاقليمية صارت جزءا اساسيا من استراتيجيات الدول
الاستعمارية في المرحلة الراهنة من تاريخ الامبريالية العالمية المتغولة على
ثروات العالم. فقد أيقن دهاقنة الاستعمار عبر التجربة التاريخية المديدة ان
بقاءهم لأطول مدة ممكنة في اراضي الغير رهن بمدى قدرتهم على استيلاد طبقة من
المنتفعين والعملاء الذين يشكلون واجهة وطنية للاستعمار ويحققون اهدافه مقابل
عمولة ورشوة تسمى الحكم الوطني.
والاستعمار الاميركي الحديث للعراق توصل الى النتيجة البديهية ذاتها بعد سنوات
قليلة من احتلال البلد والعبث بمقدراته، كما توصل الى نتيجة اخرى كانت محل
سخرية وانتقاد ابواقه الاعلامية قبل سنوات، ومؤداها ان مشاكل المنطقة مترابطة
وان حل ازمة العراق رهن بحل ازمة احتلال فلسطين، الا ان المستعمر الاميركي عاد
اليوم للحديث عن الحل الشامل وعن ترابط ازمات المنطقة، من الارهاب الى العداء
لاميركا الى اغتصاب فلسطين.
وتثبيت اغتصاب اليهود لفلسطين هو النقطة المركزية في السياسة الامبريالية
الجديدة في المنطقة، وهو المحور الذي تتحرك حوله ومن اجله القوى السياسية
والعسكرية والاعلامية والايديولوجية الغربية.
وليس في ذلك مبالغة ابدا اذا اعتبرنا ان هيمنة الاستعمار القديم والجديد على
ثروات المنطقة ومقدراتها والتحكم بموقعها الاستراتيجي وابقائها في دائرة التخلف
والتبعية لا يمكن ان تتم من دون وجود اسرائيل القاعدة العسكرية الاستراتيجية
للامبريالية في المنطقة.
ويمكن قراءة ذلك ببساطة من حقيقة ان اسرائيل تكلف الادارة الاميركية ومعها
الدول الاخرى الداعمة لهذا الكيان كلفة مادية وسياسية باهظة جدا بينما هي تجني
من دول الخليج والسعودية خصوصا ارباحا طائلة. ومع ذلك فانه لا احد، مهما تذلل
واستزلم، يمكنه ان يحل محل هذا الكيان المفتعل لدى مخططي السياسة الاميركية
والغربية.
قامت الاستراتيجية الاميركية بعد احتلال العراق على دعامتين رئيسيتين: الجهد
السياسي والامني المصري والجهد الاعلامي والمالي السعودي لمواجهة المقاومات
العربية وحالة الرفض للعضو الغريب في جسد الامة سواء كان اغتصابا استيطانيا
صهيونيا او احتلالا اميركيا.
وفي العقد الماضي صعد النظام السعودي من تدخله المباشر عبر القناتين الرئيسيتين
اللتين يملكهما بكفاءة لخدمة الدور الجديد المناط به في الاستراتيجية
الاميركية، بحيث بتنا نلمس الحضور السعودي المباشر كطرف في الصراعات المحلية بل
كمحرض عليها في احيان كثيرة بدل ما هو متعارف عليه وتقليدي عن موقع سعودي اكثر
تحفظا ونأيا بالنفس عن هذه الصراعات.
ولا يحتاج المرء الى الكثير لكشف الادلة على هذه الفرضية بشقيها! فالمال
السعودي الذي تكثفت حركته في المنطقة العربية والجوار الاسلامي كما في افريقيا
ولدى الجاليات المسلمة في اوروبا واميركا يمكن بكل بساطة رصد مصارفه ومساربه
والجهات التي تمولت منه. اذ قليلا ما توجه هذا المال الرسمي او الآتي من جهات
شبه رسمية من امراء ومراكز دينية ومتمولين على حواشي النظام الملكي الممسك
بمقدرات البلاد، قليلا ما توجه الى مشروع تنموي او انتاجي احدث نقلة في حياة
دولة او شعب مسلم.
بل ان هذا المال توجه، للأسف الشديد، في الغالب الى مجموعات متعصبة امعنت في
تكفير المسلمين ونشر الفرقة بين المذاهب والترويج للغلو في الدين باسم التمسك
بمذهب اهل السنة والجماعة. وكثيرا ما كان مسلك هذه الجماعات مصدرا اساسيا
اعتمده اعداء الاسلام للنيل من افكاره السمحة وسلوكاته الرشيدة والعقلانية.
وفي مناطق الازمات شكلت الاموال السعودية عصب الحركة السياسية القائمة على
التحريض الطائفي والمذهبي في العراق ولبنان، وتمزيق الوحدة الوطنية وتحريض
الافرقاء بعضهم على بعض كما هو في فلسطين.
بل ان السعودية التي عملت على عقد لقاء مكة للمصالحة لم تبذل أي جهد للمحافظة
عليه وتطبيقه، وهي تدرك ان سلطة دايتون التي يمثلها محمود عباس، غير جادة في
المصالحة مع حماس او الالتقاء بها في محاور مشتركة او منطقة وسطى. وسرعان ما
انقلبت السعودية على مواقفها وانخرطت من جديد في جوقة الهجوم السياسي
والاقتصادي والامني ضد المقاومة وفي تدعيم جهد الحصار الذي يمارسه النظامان
المصري والاسرائيلي لقطاع غزة لاخضاعه وتركيعه للمشروع الصهيوني.
ان عداء المملكة العربية السعودية لحركات المقاومة غير مبرر على الاطلاق لا
بمسوغات سياسية ولا بتبريرات دينية او اخلاقية. حتى الذرائع التي يسوقها نظام
الرئيس المصري حسني مبارك من قبيل التزاماته بالاتفاقيات الموقعة مع اسرائيل
والتزاماته الدولية تجاه الادارة الاميركية لقاء المساعدات العسكرية والمادية
التي يتلقاها منها... حتى هذه التبريرات الواهية والساقطة قوميا ودينيا
واخلاقيا لا تنطبق في أي حال من الاحوال على السياسة السعودية، الا ان المملكة
الزمت نفسها بتنفيذ الشق الذي عجزت عنه الادارة الاميركية والعدوان الاسرائيلي
في تصفية القضية الفلسطينية، وذلك من بابين كبيرين:
اولا: اخماد روح الجهاد والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني، واشغاله بالهموم
الحياتية والصراعات الجانبية، وتسخيف قدرة مقاومته ودماء شهدائه على انجاز
اهدافه الوطنية، ومحاصرة قواه الفاعلة ماديا واعلاميا وسياسياً وعزلها وتنشيط
قوى الردة بين صفوفه.
ثانيا: ضرب القضية الفلسطينية بحد ذاتها وتغييبها عن وعي وضمير الامة، وذلك
بافتعال ازمات واثارة قضايا غير واقعية وغير حقيقية، وتضخيم مشاكل واحداث
وخلافات قطرية او مناطقية وابرازها اعلاميا وسياسيا الى حد الوصول الى فرض
وقائع ميدانية جديدة. كل ذلك كي لا تبقى القضية الفلسطينية تحظى بالمكانة
الاولى في ذهن ووجدان العالم العربي، مما يسهل مشاريع التخلي والتسوية ونسيان
الحق التاريخي للعرب والمسلمين في فلسطين وتكريس الكيان الصهيوني المحتل.
وبرزت مفردات هذه السياسة السعودية في ادبيات كتابها وصحافييها التي تبث في
وسائل الاعلام المملوكة والممولة من السعودية، من صحف وتلفزيونات وباشراف
مباشر من كبار امرائها.
فالكتاب السعوديون يبخسون من قيمة الشهداء، في حين افتى علماء المملكة العربية
السعودية بحرمة اطلاق تسمية شهيد على ضحايا الاعتداءات الاسرائيلية او قتلى
المواجهات العسكرية مع قوات الاحتلال في فلسطين. ومعلوم مدى الاذى النفسي الذي
تسببه هذه الفتاوى التي تحرم الضحايا المقهورين حتى من العزاء النفسي بأن
قتلاهم شهداء عند ربهم يؤدون واجبا مقدسا لامتهم وشعبهم.
ويشير احد الكتاب السعوديين البارزين صراحة الى ان هناك ما بات يستوجب
المراجعة، اذ أن القضية الفلسطينية تحوّلت الى ما يشبه الكابوس داخل الثقافة
السياسية العربية المعاصرة، داعيا ببساطة الى تخفيض القضية الفلسطينية الى
مستوى قضايا أخرى عربية وربما أقل من ذلك "فباسم هذه القضية، احترق في عالم
العرب الأخضر واليابس، فلا حلُت القضية، ولا حصل العرب على رفاه الفرص التي
كانت متاحة. ليس المطلوب التخلي عن هذه القضية، بصفتها قضية من القضايا، ولكن
المطلوب هو إخراجها من تهويمات الأسطورة إلى وقائع الأرض، بحيث لا تبقى بوصلة
اتجاه أو محور ثقافة ومحدد سياسة" كما يقول.
ولدى الكتاب في الصحف الحكومية او شبه الحكومية السعودية فان المقاومة "ارهاب
واعمال فوضى وممارسات عبثية وصواريخ تنكية وسبب للعدوان" وهي "مسؤولة عن عذابات
شعبها والخسائر التي توقعها الة الحرب الاسرائيلية بالشعب الاعزل والمحاصر" الى
جملة التعابير المقصودة والمعممة بالحرف ضمن سياق مبرمج لالغاء الهالة المعنوية
والقداسة السياسية التي تتمتع بها المقاومة لدى الشعوب العربية والاسلامية وقتل
الروح المعنوية للشعب الفلسطيني وتكفيره بقدراته على الصمود والمقاومة.
ولم تغب هذه التعابير عن الصحف السعودية وعلى ألسنة كبار كتابها منذ عدة سنوات
وبشكل منهجي لاسقاط قدسية المقاومة وحرمة القضية الفلسطينية بكل مندرجاتها
وتعويد الاذن العربية على مواقف مهينة للمقدسات الوطنية والقومية.
وهكذا، فقبل ان تسوق الديبلوماسية السعودية على لسان مصدر مسؤول اولا ثم على
لسان وزير خارجيتها ومن ثم في مقالات جوقة الصحافيين المنتفعين، اتهامات لحزب
الله في لبنان والمقاومة الاسلامية بانها "مغامرة" ومتهورة ومتسببة بالعدوان
الاسرائيلي الوحشي على لبنان صيف العام 2006، قبل ذلك كان كتاب سعوديون يسوقون
الاتهامات نفسها للمقاومة الفلسطينية باستدراج جيش الاحتلال لقصف بيوت المدنيين
وتدمير البنية التحتية في قطاع غزة.
وحقيقة الامر فان المواقف السعودية الاخيرة الحادة من حزب الله في لبنان ومن
ايران تندرج فقط في هذا الجهد السعودي لاجهاض المقاومة وتعبيد الطريق امام
تصفية القضية الفلسطينية تحت مسميات وهمية مخادعة كعملية السلام ومبادرة السلام
العربية وتوابعها من حديث ملغوم عن تنمية وضغوط اقتصادية ومشاريع مستقبلية.
ان تركيز المملكة العربية السعودية ومعها النظام المصري على ايران وابراز
المخاوف من دورها الاقليمي ومساعدتها لقوى محلية مناهضة للاحتلال الاجنبي، كما
هو الحال في العراق ولبنان وفلسطين، يندرج في اطار الاستراتيجية الاميركية
لاحلال قضية مكان اخرى في اهتمامات المواطن العربي.
فالمخابرات الصهيونية والاميركية تعرف ان ثلاثين سنة من توقيع اتفاقات السلام
بين بعض الانظمة العربية والكيان الاسرائيلي لم تؤد الى تقدم مماثل في مجال
التطبيع الشعبي بين الامة العربية والاسلامية واليهود الغزاة في فلسطين. والسبب
المنطقي لذلك هو بقاء القضية الفلسطينية قضية العربي والمسلم الاولى من حيث
الاهتمام والمتابعة، واعتبار اسرائيل كيانا معاديا والخطر الاول على حاضر
ومستقبل العرب والمسلمين في فلسطين وخارج فلسطين. ومن هنا فقد عمدت الصهيونية
العالمية الى استيلاد هذه الشعارات والقضايا وضخت فيها السموم والاضاليل لايهام
الشارع العربي بان هناك اخطارا اخرى اهم واكبر، وان القضية الفلسطينية التي ضحت
في سبيلها اجبال عربية كاملة هي مسألة خلافات ونزاعات على امتار من الارض او
توزيع للسيادة هنا وهناك، وان الخطر الوجودي لم يعد متمثلا في الكيان الصهيوني
بل في الثورة الايرانية، واخيرا في امتلاكها التقنية النووية!!
ولما كانت هذه الدعاية غير مقنعة بالكامل ولا تجد لها من ادلة واقعية او شواهد
عملية في سياسة وسلوك ايران لاثباتها، عمدت الآلة الدعائية السعودية الى تسعير
المشاعر المذهبية في المنطقة راهنة مستقبل كثير من الدول بهذه اللعبة الشيطانية
ومضحية بأمن وسلامة مجتمعات عربية عدة بما فيها المجتمع السعودي بفرض حالة من
العداء بين الفرق والمذاهب الاسلامية.
والجميع بمن فيهم المثقفون السعوديون يعلمون ان لا اساس دينيا للصراعات
المذهبية في المنطقة ولا مجال للصراع في هذا الزمن على أي شعار ديني او مذهبي.
فالامر غير مطروح البتة، بل ان هذه اللعبة الشيطانية جاءت في خضم دعوات
ومؤتمرات وجهود شارك فيها السعوديون انفسهم تحت شعار الوحدة الاسلامية وتقريب
المذاهب وما شابهها من شعارات ومنطلقات خرجت من احساس بالخطر الخارجي وضرورة
توحيد الجهود لبدء نهضة عربية واسلامية شاملة تعيد مجد الامة وتضع شعوبها في
المكان اللائق بها.
ولا شك في ان المتنورين السعوديين يعرفون ايضا ان هذه الصراعات لا تخدم أي طرف
او فريق، بل ان التجربة التاريخية تثبت ان سلسلة من الصراعات والمجازر والفتاوى
التكفيرية لم تؤد الا الى تبديد الجهود وارتكاب الآثام في قتل الابرياء وتشويه
العقيدة والضخ بمزيد من الخرافات والاضاليل في متون الفكر الاسلامي لتبرير
الانحراف، الا انها لم تحسم الخلاف لاي طرف، وظل الدين عزيزا بتنوعه مذاهبه
واجتهادات علمائه.
الا ان السياسة الرسمية السعودية التي لا تغيب عنها هذه الحقائق دفعت باتجاه
اللعبة الطائفية والفتنة المذهبية في العراق ولبنان وعموم المنطقة وحتى في
فلسطين حيث لا يوجد تعدد للمذاهب والطوائف، وذلك خدمة للمخطط الاميركي المعلن
بإغراق المنطقة في صراعات تخفف الضغط عن احتلال العراق وتصفية القضية
الفلسطينية لمصلحة الاحتلال الاستيطاني اليهودي وتكريس الوجود الاسرائيلي كقوة
عظمى في المنطقة.
ولا عجب ان قرأنا على صفحات الصحف السعودية وفي بعض التلفزيونات الممولة سعوديا
مقالات مكررة عن ان الخطر الشيعي يفوق الخطر الصهيوني وعن امكانية التحالف
والتعاون مع اسرائيل لمواجهة ايران.
ولم يقتصر الامر على الكلام في الصحف والاذاعات بل تحول الى واقع ملموس عبر
توحيد الرؤية السياسية بين اسرائيل والسعودية ومصر خصوصا تجاه تصفية المقاومة
في لبنان وغزة.
وواقع الحال ان المنحى التصاعدي للموقف السعودي المتوائم مع السياسات
الاسرائيلية بلغ ذروته في عدوان تموز 2006 على لبنان، العدوان الذي كان يستهدف
المقاومة الاسلامية من جهة باعتبارها عقبة كأداء في مواجهة الخطر الصهيوني
ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية، ويستهدف الساحة اللبنانية لاحكام السيطرة
عليها وافراغها نهائيا من بعدها الوطن والمقاوم للهيمنة الأميركية.
وكان العام 2006 قد شهد تواترا في الانباء عن تكثيف اللقاءات الاسرائيلية
السعودية، ونشرت الصحف الاسرائيلية تقارير متلاحقة عن اجتماعات رفيعة المستوى
ذات طبيعة سياسية وامنية شارك فيها مسؤولون سعوديون من الصف الثاني من الامراء
ابرزهم الامير بندر بن سلطان والامير تركي الفيصل.
ان صمت السعودية، بل ومساهمتها في حصار قطاع غزة وهي حرب ابادة جماعية موصوفة
وجريمة حرب لم يشهد مثلها التاريخ المعاصر، دليل على ولوغ المشروع السعودي في
الدم الفلسطيني وقطعه اشواطا بعيدة في تنفيذ المشروع الصهيوأميركي لتصفية
القضية الفلسطينية، ولكن ذلك لم يكن ليمر بسهولة ومن دون احداث تصدعات في هيبة
المملكة السعودية وعلاقات اقطاب العائلة المالكة ببعضهم البعض.
ان الاحراج الذي تستشعره السعودية في سياستها لانهاء الصراع العربي الاسرائيلي
وإجهاض المقاومة الفلسطينية يفسر التأرجح الذي يبدو على مواقفها، الا انه لا
يلغي ثبات واستمرارية هذه السياسة التي ربطت المملكة بقطار كامب ديفيد الذي
يجره الحصان المصري منفردا في المنطقة العربية.
وقد تبدى هذا الاحراج خصوصا بعد العدوان الاسرائيلي على غزة وما رافقه من مجازر
ومذابح شكلت واحدة من ابشع محطات العدوان العنصري على الشعب الفلسطيني، واعاد
الى الاذهان صور المجازر البشعة وحروب الابادة الجماعية في اسوأ مظاهرها عبر
التاريخ.
ولعل بؤس الديبلوماسية السعودية والمصرية ومعها وسائل الاعلام المبرمجة
بالتوجيه الاميركي، قد تكشف اخيرا مع صدور تقارير المنظمات الدولية التي وجهت
الشهر الماضي اتهاما مباشرا ورسميا لجيش الاحتلال ومسؤولية العسكريين
والسياسيين بارتكاب مجازر ضد الانسانية وجرائم حرب في غزة، في وقت كانت
الديبلوماسية السعودية ووسائل اعلامها تنشط لتبرير العدوان باعمال المقاومة
وتسلط الضوء على حماس والمقاومة الفلسطينية باعتبارها مسؤولة عن تفجير الاوضاع
واستمرار حالة الحرب!
ولا تزال الديبلوماسية والاعلام السعوديان يتجاهلان المأساة الفلسطينية في غزة
ويتستران على الوقائع الاجرامية للحصار الظالم على القطاع الذي يترك اكثر من
مليون ونصف مليون فلسطيني عرضة للاذلال والمرض والموت البطيء بحجة مخزية باتت
معلنة هي جر الفلسطينيين الى الاستسلام والرضوخ للمطالب الاسرائيلية وتسليم
قيادة الشعب والقضية لقيادة سلطة دايتون التي تحكم الضفة الغربية.
بل ان القيادة السعودية لم تحركها المشاعر الانسانية التي تحرك منظمات غربية
وحكومات من اقاصي الارض للتعاطف الانساني مع الشعب الفلسطيني الذي لا يسمح لها
الاخ المصري بادخال مواد بناء لاعادة اعمار منازله المدمرة بالعدوان العسكري
الصهيوني.
وكانت قمة الفجور في الموقف السعودي ابان العدوان على غزة عندما رفضت السعودية
انعقاد قمة لدعم المقاومة والمطالبة بوقف العدوان الاسرائيلي الوحشي على
الفلسطينيين، ورمت بكل ثقلها المادي والمعنوي بشكل سافر ومكشوف لمنع انعقاد قمة
الدوحة لاعادة تشكيل موقف عربي متضامن حول القضية الفلسطينية بما يشكل رافعة
لموقف اسلامي ودولي يعيد القضية الى موقعها الصحيح كقضية شعب مشرد احتلت ارضه
ومقدساته ويتعرض للعدوان المتواصل من قبل الآلة العسكرية الصهيونية.
وامام الدعوات الملحة شعبيا ورسميا لدى الغالبية العظمى من شعوب ودول المنطقة
وفي العالم لوقف مسلسل الانهيار الذي تسببت به ما عرف بالمبادرة العربية للسلام
مع اسرائيل اضطر الامير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الى التصريح بعد قمة
الكويت الاقتصادية التي اعقبت قمة الدوحة غير المكتملة النصاب، بأن المبادرة
العربية لن تبقى الى الابد على الطاولة وان العرب سيعيدون النظر فيها اذا لم
تبد اسرائيل التزاما بمقتضيات السلام.
كلام عمومي غير محدد لم يأخذه احد على محمل الجد!
واعتبرت هذه التصريحات مجرد بالونات اعلامية لتنفيس الاحتقان وامتصاص النقمة
الشعبية المتصاعدة وللالتفاف حول القناعة الشعبية المتصاعدة حول ضرورة دعم
المقاومة واعتبارها وسيلة رئيسية لاستعادة الحقوق وردع العدوان.
ومثل ذلك يقال عن المبادرة التي اعلنها الملك عبدالله بن عبد العزيز في قمة
الكويت ذاتها للمصالحة وكسر جمود التشنج بين المحورين العربيين والتي لم تسفر
عن أي تحول فعلي في المواقف والسياسات من القضية الفلسطينية ولم تؤثر في هيكلية
الانقسام العربي حتى الان.
هل هناك مبادرة سعودية جديدة في الافق؟
واذا كان البعض قد رحبوا بما ابدته السعودية من رغبة بالتواصل مع الاطراف
العربية والفلسطينية الممانعة والمقاومة، فإن الامال شبه معدومة بتخلي السعودية
عن ارتهانها للسياسة الاميركية في المنطقة وتحالفها الوثيق مع نظام كامب ديفيد
في القاهرة.
واكثر من ذلك فان هناك تلميحات واشارات الى قيام الرياض بدور سياسي اكثر جرأة
والدعوة الى مبادرة سياسية جديدة من دون الاعلان عن موت مبادرتها السلمية التي
تتمسك بها اعلاميا حتى الان، وهي اكثر الناس علما بأن عروقها جفت وبات مستحيلا
اعادة ضخ الحياة فيها.
واحد المؤشرات على هذه الخطوة المحتملة ما نشره الكاتب الاميركي اليهودي توماس
فريدمان الذي يعتبر مستشارا سريا للملك عبد الله والذي تفرد له وسائل الاعلام
السعودية مساحات كبير لعرض وجهات نظره المتحاملة على العرب والفلسطينيين
والمنحازة لاسرائيل باستمرار، كما يشار الى انه احد الذين رسموا الخطوط العريضة
لمبادرة الامير عبدالله التي تحولت الى المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت
عام 2002 بضغط سعودي كبير.
والمبادرة السعودية الجديدة تدعو لحل القضية الفلسطينية في اطار محور الاعتدال
الذي صاغته وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس، دون الحاجة الى
قمة عربية او موقف عربي موحد وشامل لتكريس الانقسام العربي وتجنب الاتصال
بالدول العربية المعنية بالصراع مع اسرائيل وخصوصا سورية ولبنان.
ويقول فريدمان ان هذا الحل السعودي يفترض تعاون مصر والاردن والسلطة الفلسطينية
واسرائيل فقط لوضع ترتيبات حل نهائي للقضية الفلسطينية على ان تمثل السعودية
غطاء سياسيا ودينيا وماديا لهذا الحل.
والمبادرة السعودية التي يجري تداولها في الكواليس تستجيب لكافة شروط وطلبات
اليمين الاسرائيلي المعلنة: فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وجعل الترابط
بينهما اسميا وشكليا فقط ، منع الدولة الفلسطينية من امتلاك أي قوة عسكرية غير
الشرطة واجهزة الامن التي يبنيها الضابط الاميركي دايتون حاليا والمتعاونة مع
اسرائيل كلي، وتلزيم الامن في المناطق الفلسطينية للاردن في الضفة الغربية
ولمصر في قطاع غزة عبر صيغ تعاون واتفاقيات ثنائية تمولها السعودي، والتنازل عن
شعار الانسحاب الى حدود 67، وتعميم مبدأ نتنياهو حول السلام الاقتصادي واستكمال
بناء المؤسسات الفلسطينية بحسب مخططات سلطة دايتون التي يقودها اليوم سلام فياض
في الضفة الغربية.
وتمهيدا لهذه المبادرة وبعد فشل الادارة الاميركية في تقديم ورقة توت للانظمة
المستسلمة عبر تجميد الاستيطان ولو مؤقتا فان الرياض تقوم الان بمناورات سياسية
احتوائية لاعادة التواصل مع بعض دول الممانعة لتليين مواقفها واغرائها ببعض
المكتسبات الشكلية للتخلي عن اوراق الصمود الفلسطينية وترك المقاومة وحيدة في
مواجهة غول الاستسلام والضغوط العسكرية والمالية عليها.
وفي غضون ذلك، تراهن الرياض تراهن على الضغوط الاميركية والدولية لاجبار طهران
على التنازل او على الاقل لاشغالها ومنعها من لعب دور الحاضن لقوى الصمود
العربية المتصدية للمخطط التصفوي الاسرائيلي الاميركي.
تستوجب المرحلة الحالية التنبه الكبير والحذر المتواصل، ذلك ان الصهيونية تدرك
الان ان لعبة الوقت لم تعد لمصلحتها، كما تدرك ان الانظمة العربية الحالية هي
افضل فرصة لقمع الشارع العربي وتضليل الجماهير مما يفسح في المجال امام فرصة
نادرة لفرض امر واقع جديد ينهي القضية الفلسطينية ويعيد خلط الاوراق عبر انشاء
كيان فلسطيني هزيل وتوطين اللاجئين الفلسطينيين خارج وطنهم لانهاء كابوس حق
العودة الى فلسطين وفرض التطبيع والعلاقات بين الدول العربية والكيان
الاسرائيلي الدخيل. ولعل ذلك ما يفسر الحدة في مواقف الاطراف التي رهنت وجودها
بتحقيق التسوية بحسب المنظور الاميركي الذي يستبطن الاهداف الصهيونية في هذه
المرحلة.