gulfissueslogo
السياسات السعودية تجاه "إسرائيل"
د. سعيد الشهابي ـ البحرين

 ثمة حالة استقطاب واضحة بدأت تتبلور على صعيد الرأي العام العربي في ما يتعلق بالموقف من الإحتلال الصهيوني لفلسطين لم تكن بهذا الوضوح قبل بضع سنوات. وربما السبب المهم في تجسد هذه الحالة تبلور اتجاه تحريري واضح الرؤى والأهداف في السنوات الاخيرة، يرفض الانسياق وراء مشاريع التسوية التي تضفي شرعية على الاحتلال الاسرائيلي لأرض فلسطين. فعلى مدى العقود الثلاثة الاخيرة كانت المواقف والرؤى تتميز بالضبابية والتداخل والتشوش بسبب سعي الخطاب الرسمي العربي للتخفي وراء شعارات فضفاضة. ولكن السنوات الثلاث الأخيرة فرضت واقعاً جديداً أصبحت المواقف فيه أكثر وضوحاً واستقطابا.
 
ويمكن القول ان وضوح الموقف السعودي كان عاملا أساسيا في ما جرى. فالدبلوماسية السعودية اتسمت في السابق بحركتها الهادئة، وابتعادها عن الضوضاء الإعلامية، وتجنب المواقف الصارخة. ولكنها في السنوات الأخيرة تغيرت وأصبحت أكثر ميلاً للوضوح والصراحة. بدأت هذه الظاهرة تتجلى خلال العدوان الاسرائيلي ضد لبنان في حرب تموز 2006، ابتداء بالتصريحات المعلنة ضد حزب الله وسياساته إضافة الى حماس، مرورا بالتغطيات الاعلامية لما كان يجري على أرض لبنان، وصولاً الى السياسات غير المتعاطفة مع المقاومة، وإقحام المسألة المذهبية في الصراع السياسي والدبلوماسي آنذاك.
 
وربما كانت تلك السياسات السعودية كفيلة بإحداث حالة استقطاب محدودة لا تؤثر على التوازنات السياسية والاعلامية على الساحة العربية، لو لم تكرر السعودية سياساتها نفسها خلال العدوان الاسرائيلي ضد غزة في مطلع هذا العام. ففي تلك الأزمة لم تترك السياسة السعودية مجالاً للمواقف الوسط، بعد أن انحازت بشكل كامل ضد المقاومة الفلسطينية، إعلامياً وسياسياً. وجاء التحالف السعودي المصري خلال الأزمة ليكرّس حالة الاستقطاب في المواقف والسياسات على الصعيدين العربي والاسلامي، سواء ما يتعلق بالعلاقات داخل ابناء الامة الواحدة ام المواقف السياسية تجاه الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. ويمكن اضافة حقيقة اخرى ما تزال غائبة عن أذهان الكثيرين، تتمثل بالدور السعودي في حرف مسار المجموعات المقاتلة في العراق من تركيز جهودها ضد الاحتلال، الى استهداف العراقيين، تارة على أسس مذهبية، وأخرى لاعتبارات سياسية، الأمر الذي أدّى الى إضعاف تلك المجموعات بشكل حاسم.
 
السياسة السعودية تجاه قضية فلسطين اتخذت مسارات عديدة على مدى العقود الستة منذ تأسيس الكيان الاسرائيلي. لم تكن تلك السياسة ذات أثر واضح في النصف الاول من ذلك التاريخ، لكنها برزت بشكل أوضح بعد حرب 1973. يومها كان الملك فيصل بن عبد العزيز أحد المتحمسين لاستخدام النفط كسلاح في المعركة، الأمر الذي أدّى الى اغتياله بعد عامين من ذلك، وفق التحليلات السائدة.
 
سياسة المواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة والغرب هذه تغيرت كثيرا في العقود الثلاثة اللاحقة. ولذلك فقد استبقت الرياض أية دعوة في هذا المجال، ففي ذروة العدوان الاسرائيلي ضد لبنان في صيف 2006 أعرب الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي عن اعتقاده بأنه لا يفترض استخدام النفط كسلاح لأنه الشريان الإقتصادي الرئيسي للدول العربية. ورأى وزير الخارجية السعودي انه يجب عدم الخلط بين المسألتين السياسية والنفطية. وسبق أن أوضحت السعودية أنها لا تنوي تكرار ما حدث عام 1973 من فرض حظر على تصدير النفط العربي. بينما كان الرأي العام العربي والاسلامي يدعو لاستخدام كافة وسائل الضغط على الدول الداعمة للعدوان الاسرائيلي، بما في ذلك التلويح بوقف الامدادات النفطية.
 
هذا الموقف السعودي يعتبر امتدادا طبيعيا للتوجه السعودي في ا لعقود الاخيرة الداعم للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. ففي مارس (آذار) 2002 طرح الأمير عبد الله بن عبد العزيز مبادرة سلام سعودية واقترح في بيروت بأن تتقدم جامعة الدول العربية بمشروع عربي جماعي الى مجلس الامن الدولي يقوم على أمرين أساسيين: العلاقات الطبيعية والأمن لاسرائيل، مقابل الإنسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة والاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد أقرت القمة العربية التي عقدت آنذاك في بيروت المبادرة السعودية، وأطلقت عليها اسم "المبادرة العربية". هذه المبادرة جاءت استمرارا لنمط التفكير السعودي الذي يسعى لارضاء واشنطن ومسايرتها في سياساتها الاستراتيجية في الشرق الاوسط. وكان واضحا منذ طرح تلك المبادرة ان حظوظها من النجاح محدودة في غياب الموقف العربي القادر على الردع وعلى الدفاع عن النفس والحقوق، ورد العدوان. فالقوة العسكرية ليست هي العامل الوحيد لتحقيق ذلك، ما دام العرب يملكون وسائل ضغط أخرى، دبلوماسية واقتصادية وسياسية.
 
الدبلوماسية السعودية الهادئة تغيرت تماماً بعد ذلك، وما أن حدث العدوان الاسرائيلي ضد لبنان في تموز (يوليو) 2006 حتى كان النظام السعودي يعبر عن سياساته العلنية الراغبة في التطبيع مع الاسرائيليين، لكنه رأى في المجموعات المقاومة مثل حزب الله اللبناني وحماس والجهاد الفلسطينيتين حائلا دون ذلك. وفوجيء الرأي العام العربي والاسلامي بالموقف السعودي العلني الذي عبر عنه السياسيون السعوديون من جهة، ومارسته وسائل إعلامهم خصوصا قناة "العربية" التلفزيونية من جهة أخرى. وربما رأى الملك عبد الله ان استمرار حالة المقاومة لن يكون حائلا دون نجاح المبادرة السعودية فحسب، بل سيؤدي الى خلق توازن استراتيجي جديد في المنطقة على حساب القوى المتحالفة مع دول الغرب.
 
الرياض عمدت لتسويق موقفها بالتركيز على البعد المذهبي، وطرح علماؤها فتاوى بعدم جواز دعم "حزب الله الشيعي". وقد تأثرت مجموعات قليلة بذلك الطرح الذي كان قد تم الترويج له في العراق، ولكن الرأي العام العربي لم يتأثر بذلك المنحى. وتجدر الاشارة الى ان العلماء الذين أصدروا فتاوى تبيح قتل المخالفين مذهبياً، هم أنفسهم الذين أصدروا في 1990 فتاوى تجيز الاستعانة بالقوات الاجنبية التي جيء بها لـ "تحرير" الكويت. وطرحت تساؤلات كثيرة عن مدى شرعية تطويع الدين من خلال الفتاوى المتناقضة لدعم السياسات المتغيرة، على غير مبدأ او موقف ثابت.
 
ولكن تلك السياسة لم توفق كثيرا، فقد تغيرت الوقائع والظروف، وأصبح الرأي العام العربي والاسلامي أمام موقف آخر عندما شن الاسرائيليون عدوانهم الوحشي ضد حركة "حماس" واستهدفوا سكان غزة بوحشية كانت تكرارا للوحشية التي استخدمت قبل ذلك بثلاثين شهراً في العدوان ضد لبنان. تلك الوحشية فاقت التصورات برغم محاولات التعتيم عليها من قبل الإعلام العربي المسيس خصوصا السعودي منه. تلك الوحشية لم يستطع ريتشارد جولدستون، رئيس لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة حول العدوان على غزة، اخفاءها او التستر عليها. هذا مع العلم ان جولدستون يهودي من جنوب أفريقيا يعرف نفسه بأنه "صهيوني" وهو الرئيس الفخري لعدة هيئات في "اسرائيل" بينها مجلس إدارة شبكة مدارس "أورط" ولجنة أصدقاء الجامعة العبرية في القدس.
 
برغم شراسة العدوان على غزة، لم تكن القيادة السعودية مستعدة للوقوف بجانب الضحية، بل تحالفت مع مصر، الدولة العربية الكبرى، في التصدي للمقاومة ومنع وصول الإمدادات اليها. كان الأمل الرسمي العربي ان يكون الحصار وسياسات التجويع عاملا حاسما في الحرب، ولكن لم يتحقق ذلك، بل أرغمت قوات الاحتلال الصهيونية على وقف الحرب بدون تحقيق مكاسب تذكر. لقد أخفقت السياسة السعودية مرة اخرى في التأثير على سياقات الحرب، وخرج الطرف الذي استهدف بذلك العدوان مرفوع الرأس، شامخ الهامة.
 
ولم تنحصر الخسارة السعودية بسبب موقفها ازاء العدوان بالجانب السياسي، بل ان ذلك الموقف كشف المؤسسة السياسية السعودية أمام علماء المسلمين. ففي شهر يناير الماضي توجه وفد من اتحاد العلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي الى عدد من العواصم العربية والاسلامية لحث حكوماتها على دعم أهل غزة، ولكن الوفد تعرض لإهانة كبيرة عندما تعرض لتوبيخ لاذع من الملك السعودي الذي اتهم أعضاء الوفد بأنهم يفتقرون للرؤية الواضحة، ويبالغون بدون مبرر في مجاملة حركة حماس وقادتها الذين اعتبرهم بصراحة وأمام العلماء "غير جديرين بالثقة وغير مؤهلين لحمل الأمانة والتصرف بمسؤولية" كما قال. وبرغم محاولات بعض اعضاء الوفد التعتيم على ما جرى، فقد رشحت بعض تفصيلاته، الأمر الذي أزعج الكثيرين.
 
وتواصلت السياسة السعودية المتجهة نحو التطبيع مع المحتلين الاسرائيليين. فقد عقد السفير السعودي في واشنطن، بندر بن سلطان آل سعود، اجتماعات عديدة مع الجالية اليهودية وممثليها ومع جماعات الضغط الصهيونية بهدف "التعبير عن حسن النوايا" ومد الجسور معهم، على أمل التمهيد لمشروع السلام السعودي. وذكرت مصادر ان بندر نفسه أشرف على ترتيب زيارة سرية لوفد من أنشط عناصر الحركة الصهيونية إلى المملكة السعودية العام الماضي ترأسه ديفيد كمحي. وقد تقدم الوفد بعدة مطالب وهي: الضغط على الدول العربية للتعجيل بإلغاء المقاطعة العربية وقطع المساعدات المالية عن الانتفاضة الفلسطينية، والعمل من خلال أصدقاء المملكة على وقف العمليات العسكرية في لبنان.
 
وعندما تبنى الملك السعودي العام الماضي مؤتمر "حوار الاديان" في واشنطن، كان شمعون بيريز، رئيس الكيان الاسرائيلي، في مقدمة الحاضرين، الامر الذي اعتبر تطبيعا عمليا بين السعودية و"اسرائيل". وقد أثنى بيريز في ذلك المؤتمر على المبادرة السعودية للسلام وطالب بالاعتراف بنهاية الصراع العربي الإسرائيلي، وإحلال السلام مع إسرائيل وتوفير الأمن لكافة دول المنطقة، وإقامة علاقات تطبيع مع إسرائيل في سياق السلام الشامل. كما طالب الدول العربية بوقف سفك الدماء، وإتاحة المجال للدول العربية وإسرائيل بأن تعيش بسلام وعلاقات جوار حسنة، وتوفير الأمن والاستقرار والازدهار للأجيال القادمة.
 
وسعت السعودية لتوسيع دائرة التطبيع مع "اسرائيل" وتعميق الاستقطاب العربي ازاء الصراع مع "اسرائيل"، فتزعمت محور "الاعتدال العربي" لبلورة موقف يدعم مبادرتها والتصدي لقوى التحرر الفلسطينية واللبنانية. جاء ذلك المؤتمر الذي عقد في أبوظبي بعد إفشال مؤتمر غزة الذي عقد في الدوحة خلال العدوان الاسرائيلي الاخير. وبذلت السعودية اموالا هائلة وجهودا كبيرة لمنع الدول العربية من الحضور لكي لا يكتمل النصاب. وفي الوقت الذي كانت الحمم الاسرائيلية تنهال على رؤوس الفلسطينيين كان الزعماء السعوديون يقترحون مناقشة القضية في مؤتمر كان سيعقد في الكويت حول الاقتصاد.
 
الامر المؤكد ان المحور السعودي – المصري الذي عمل بتناغم خلال العدوان على غزة لعب دورا في اضعاف الصف العربي، وأدى الى تبلور موقف ضاغط على الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين وقفتا ضد اية محاولة لوقف اطلاق النار وقت الحرب على غزة. ولولا انتهاء الفترة الرئاسية لجورج بوش واشتراط اوباما وقف الحرب قبل استلامه المنصب في العشرين من شهر يناير، لاستمر العدوان الاسرائيلي المدعوم سياسيا على الاقل بسياسات المحور السعودي – المصري. وبرغم هزيمة ذلك المحور بفشل العدوان الاسرائيلي، فقد استمر زعماؤه في سياساتهم المتناغمة مع السياسات الغربية. فقد اعلن النظام المصري مرارا عن "اكتشاف أنفاق سرية" تستعمل لايصال الغذاء لسكان غزة المحاصرين، واعتقل مجموعات مصرية ولبنانية بتهمة التعاون مع الفلسطينيين المحاصرين.
 
اما السعودية فقد تحركت دبلوماسيتها مجددا على عدد من الصعد، فأنفقت اموالا تقدر بما يقرب من مليار دولار لتوجيه الانتخابات البرلمانية اللبنانية لصالح حلفائها ضد تيار المقاومة. وساهمت ماليا وسياسيا، وعن طريق الفتاوى، في استهداف المسلمين الآخرين، انطلاقا من المشروع الصهيوني الذي يعتمد سياسة "التخويف المتبادل" بين المسلمين على أسس الإنتماء المذهبي، بعيدا عن القيم الانسانية والاسلامية. ولوحظ كذلك توجه السعودية لدعم الغربيين في تصديهم للمشروع النووي الايراني. وذكرت مصادر عسكرية وأمنية ان السعوديين وافقوا على استعمال مجالهم الجوي في اي عمل عسكري (وان كان اسرائيليا) لضرب المنشآت النووية الايرانية. وقد أعلن مؤخرا عن اعتقال العالم النووي الايراني، شهرام أميري، عندما كان يؤدي مناسك العمرة، وربما تم تسليمه للامريكيين. هذه المواقف السعودية تهدف لأمر واحد: التصدي للمشاريع السياسية التي لا تنسجم مع سياساتها، خصوصا في ما يتعلق بالعلاقات مع الغرب و"اسرائيل"، والتمهيد لتطبيع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي.
 
ويؤسس الساسة السعوديون سياستهم على فرضية مهمة مفادها ان التطبيع مع المحتلين الاسرائيليين امر غير ممكن ما دامت هناك ظاهرة رفض للاحتلال وسياساته وكيانه الغاصب. وتمثل المقاومتان اللبنانية والفلسطينية رأس الحربة في اي مشروع للتصدي لذلك الاحتلال، اذ ترفضان الاعتراف بالكيان الغاصب، وتؤكدان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. ان هذا الصمود في المواجهة هو الذي أدى الى ظهور قناعات محدودة لدى عدد من الساسة الاسرائيليين بعدم جدوى السعي لتحقيق انتصار عسكري على المجموعات المقاومة، او الاعتماد على الدعم السياسي السعودي او المصري ما دامت هذه الانظمة تفتقر للتفويض الشعبي الذي يخولها التفاوض مع قوات الاحتلال.
 
الصراع القائم اليوم هو بين مشروعين: تحريري واستسلامي، وارادتين: صامدة ومنهارة، وتوجهين: مفاصلة وتعايش. ولذلك فمن غير المتوقع حسم الموقف لأي منهما في وقت قصير، والزمن وحده الكفيل بالحكم على عدم جدوى التنازل عن الحق، أيا كان ثمنه.
 

copy_r