
المجتمع المدني كمفهوم وممارسة هو منتج حديث ظهر وتطور تاريخياً في سياق
علاقة حكم المجتمع بواسطة القانون. وحين ينظر الى المجتمع المدني في بيئة
محافظة فأن ثمة سؤالين بحاجة اولاً لاثارتهما:
ماهي الشروط الضرورية لظهور مجتمع مدني في مجتمعات حيث الحداثة الفكرية
والمعرفة العلمية والتكنولوجيا المتقدمة مستوردة من الغرب؟ وثانياً هل ثمة
ضرورة لاتباع نفس الانماط الناشئة داخل التجربة التاريخية الغربية في القرنين
السابع عشر والثامن عشر او حتى النموذج السياسي لماجنا كارتا الذي فرضته نخبة
من علية القوم (البارونات) في انجلترا على الملك جون في الربع الاول من القرن
الثاني عشر الميلادي؟
فكرة حكم المجتمع بواسطة القانون او المجتمع المدني كاطارين مشتركين لمفهوم
واحد يعمل كنموذج او اطار نظري او طريقة لمقاربة المشاكل للتوصل الى حل امثل.
وحالياً هناك نموذجان متقابلان يتنافسان في تحقيق هذا الغرض: النموذج الليبرالي
الديمقراطي الغربي، وهناك النموذج التوفيقي الذي ينبني على عناصر مختارة من
النموذج الليبرالي والمتوائمة مع عناصر اخرى مستمدة من التعاليم والارشادات
الدينية.
وعلى المستوى النظري فقد ولدّ مفهوم المجتمع المدني تعريفات متباينة لدى بلدان
عديدة. فكثير من المتخصصين في موضوع المجتمع المدني انخرطوا في المناظرة
الفكرية من خلال وضع تعريفاتهم الخاصة للمجتمع المدني. وقلة من المؤلفين، على
أية حال، قدّموا تعريفات محددة ومتطابقة لهذا المفهوم او المعيار الذي يمثل
المجتمع المدني. فما يجده مؤلف ما مفيداً من اجل الحفاظ على معيارية محددة
للمجتمع المدني يراه آخر معاد او ضار كلياً به. وهناك مفكران غالباً ما
يذكران في سياق الحديث عن المجتمع المدني ولكن من منظورين ثقافيين متباينين
وهما المفكر العربي المغاربي ابن خلدون والمفكر الايطالي روبرت بنتام. ورغم
المشتركات الفكرية بينهما حول مكونات المجتمع المدني، فإن ثمة اختلافات عميقة
حول المعايير الاساسية لمفهوم المجتمع المدني في الوقت الراهن. فالاختلاف بين
ابن خلدون في مقدمته وبنتام في كيفية عمل الديمقراطية والتقاليد المدنية في
ايطاليا الحديثة ترتد الى فارق زمني يمتد الى نحو 800 عاماً تفصل بين هذين
المفكرين.
فبينما حصر بنتام اهتمامه في حدود موطنه الاصلي، ايطاليا، كان ابن خلدون يتحدث
عن عرب المغرب، حيث التباين الحاد بين فضائين ثقافيين يستمد كل منهما زاده أولا
من مرجعيات دينية مختلفة الاسلام في المغرب والكاثوليكية في ايطاليا، رغم ان
ذلك لا يحبط مجهود كليهما في البحث في موضوع مشترك، الا وهو استكشاف
الوسائل والشروط التي تجعل جماعات من البشر قادرة على تنظيم نفسها في وحدات
منسجمة وظيفياً نسبياً. فواحدة من اهم الاتفاقات بين ابن خلدون وبنتام ان
المجتمع المدني على علاقة وثيقة بالتعاون بين مواطنين افراداً. فبنتام ينظر الى
صحة المجتمع المدني من خلال عدد التنظيمات الخاصة التي تربط مجموع المواطنين.
فانتماء المواطن الى مجموعة تنظيمات ولنمثلها في الزمن الحاضر في نوادي رياضية،
اتحادات عمالية، ونقابات صحافية، واحزاب سياسية، وجميعات خيرية، ومراكز
اجتماعية وثقافية يشير الى الشكل الذي يتقولب المجتمع المدني بداخله.
ابن خلدون يرى مدنية المجتمع (العمران) تستند على معيارية مشابهة لبنتام ممثلة
في المشاعر الجمعية او العصبية التي تشد اواصر مجموعة افراد. فالمشاعر الجمعية
الحميمية تفضي الى التصاق المواطنين باطار وظيفي كلي هو المجتمع المدني.
ويتفق كل من ابن خلدون وبنتام على أن الوسائل التقليدية للتنظيم
الاجتماعي المدني كانت الروابط العائلية. فكان بنو الانسان ينظموا انفسهم داخل
مجموعات وظيفية من خلال الروابط القرابية العائلية. فالقبيلة كانت في وقت مبكر
من حياة الشعوب المجتمع الذي يمكن اعتباره الشكل الاولي لانصهار عدد محدد
من الافراد على اساس العلاقات القرابية المشتركة. فالقوانين كانت تطاع والمهام
كانت تنجز بناء على رابطة الدم المشتركة بين اعضاء القبيلة.
فقد ناصر ابن خلدون وبحماسة عالية رؤيته في كون رابطة الدم تمثل الوسيلة
الكفؤة لما يمكن ان يشكل الاساس لبناء المجتمع المدني، تأسيساً على أن
المشاعر الجمعية تنشأ حصراً من رابطة الدم او ما يتوافق مع هذه الرابطة. فالناس
يتعاونون فيما بينهم بناء على شعور فرد بالعار حين يعامل احد اقرباءه بصورة غير
عادلة او يهاجم من قبل اخرين، وبهذه الطريقة يحقق المجتمع تماسكه التام على طول
الروابط العائلية.
و هذه الروابط مثلت اطارات تشكل في مجتمعات غير مكتملة النمو سياسياً، أي في
فترة لم تنضج فيها عملية انتاج المجتمع لدولته، ولم تتولد فيها حاجات عاجلة
وملحة لانشاء المزيد من التنظيمات التي ترعى مصالحها وتعكس مواقفها في مواجهة
اخطار مشتركة تفوق في حجمها حدود القبيلة او العائلة.
ومع قيام الدولة الحديثة نشأت الحاجة الى وجود تنظيمات اجتماعية متعددة الوظائف
تخترق حدود الاطارات التقليدية، وتستهدف بدرجة أساسية التعبير عن مصالح مجموعة
كبيرة من الافراد. وهذه التنظيمات ولدتها الحاجة الى ضرورة احداث توازن في
مقابل الدولة ذات الطبيعة التسلطية والاستبدادية بصرف النظر عن المدعيات
الايديولوجية او الاشكال التي استقرت فيها. فمؤسسات المجتمع المدني في الوقت
الذي تمثل مصالح مجموعة كبيرة من الافراد توفر ايضاً ضمانة صلبة امام عسف
الدولة واجهزتها. فالدول التي تنشط فيها هذه المؤسسات تعتبر اكثر استقراراً
وديمقراطية من الدول التي مازالت تعتبر قيام المؤسسات الاهلية غير الخاضعة
لاشراف الدولة "اخطار" محتملة ومصادر تهديد لوجود الدولة.
من الضروري الاشارة الى ان غياب مؤسسات المجتمع المدني او قطع الطريق عليها
وتعطيل فرص ظهورها لن يمنع من نزوع الافراد الى الانضواء في تشكيلات جماعية.
فقد شهدت دول الخليج في سني مبكرة من نشأتها ظهور تشكيلات سياسية، ثقافية
وحقوقية وادبية بصورة سرية وفي كثير من الاحيان مخالفة لرغبة هذه الدول. وقد
اكدت التطورات السياسية التي عاشتها دول الخليج بدءا من الموجة القومية
الناصرية في الخمسينيات والستينيات الى انبعاث التيار الاسلامي في نهاية
السبعينيات الى الموجة التكنولوجية الرابعة وما تخلل هذه التحولات الكبرى في
مجال حقوق الانسان وتيار العولمة والانفتاح الفكري ان ثمة نزوعات كامنة داخل
سكان هذه البقعة الجغرفية الى التشكل الجماعي.
المجتمع والتغيير
اذا كانت التغييرات الاجتماعية التي جرت خلال برامج التحديث لم تستعلن نفسها ـ
بصورة طبيعية ـ في هيئة تشكيلات جماعية في العقود الماضية، فإن عقد التسعينيات
كان كفيلاً بأن يفرز مجتمعاً متبايناً بصورة حادة منذ التسعينيات. فثلاثة
عقود من برنامج تحديثي واسع النطاق أحدثت تطوراً كبيراً في البنية الاساسية
المعمارية لهذه البلدان، شمل ذلك بناء المدارس والمستشفيات والكليات والجامعات
ومراكز التسوق التجاري والمطاعم ومراكز الترفيه بفعل المداخيل البترولية
الضخمة. ولكن هذا التدفق الهائل قد اثبت، على اية حال، بأنه سلاح ذو حدين،
فالمأزق الذي واجهته دول الخليج في التسعينيات هو كيفية الحفاظ على ميراثها
الثقافي والديني في الوقت الذي تحاول تحقيق المكاسب التي يمكن ان تقدمها
الثروة. فقد كان النزوع العام لدى قادة دول الخليج ينصب على ادخال
التكنولوجيا الغربية مع الاحتفاظ بتلك القيم التي ينظر اليها بأنها جوهرية
بالنسبة لمجتمعات الخليج، وعلى حد قول مسئول سعودي "إننا نجحنا في جذب
التكنولوجيا بدون ايديولوجيا".
اشكالية تقليدية تثار في الوسط الاسلامي والليبرالي العلماني على حد سوءا
مفادها ان قيام الدولة على اساس ايديولوجية دينية يحرمها من تبني نموذج
المجتمع المدني على الطريقة الغربية، فرسالة الدولة الدينية هي ادخال المجتمع
برمته ضمن مشروعها الدعوي واحالته الى جيش من الموالين. وهذه الاشكالية تتغذى،
غاالباً، على بعض التوجهات المحافظة التي ترى الدولة كأداة تبشيرية
ووسيلة لتحقيق التوحد المجتمعي عبر غرس مفهوم محدد للدين. وقد ظهر بأن وجود طيف
واسع من التفسيرات الدينية المتباينة سيما في مجتمعات تتوزع فيها المذاهب
الدينية بصورة شبه متعادلة يكون استعمال الدين فيه من قبل الدولة مشتملاً على
مخاطر جمة.
وبمرور الزمن ثبت خطورة توظيف الدولة للدين بالطريقة التي يراد من الاخير تعزيز
سلطانها السياسي، فقد أظهر النزوع المتزايد الى تكريس التحالف بين المؤسستين
الدينية والسياسية لجهة كبح حركة التغيير الاجتماعي تعثر مسيرة التنمية الشاملة
في البلد، فالخيار المبتور في التعامل مع المشروع التحديثي، قد وفر،
مؤقتا، فرصاً اضافية لتعزيز استقرار الدولة بالطريقة التي ارادها رجالها،
ولكن الخسائر الناجمة عن خيار انتقائي كهذا كانت كبيرة ولاشك ان الازمات
الاقتصادية والسياسية والامنية وبأشكالها الانفجارية الراهنة ليست سوى تداعيات
للانحباس الطويل الامد الذي تم بقرار من الدولة ذاتها.
فالتمدين الواسع النطاق والتحول الكبير في الاوضاع الاقتصادية نشطا الى
جانب الاتجاه المحافظ قوى التغيير أيضاً، فالعملية التمدينية انتجت معها فئات
اجتماعية جديدة مثل الطلاب، والخبراء التكنوقراطيين، وعمال اجانب ومثقفين
وغيرها. فرغم المجهود الكثيف للدولة لجهة تعطيل تأثير المجتمع العمالي الاجنبي،
ووسائل البث الفضائي واخيراً الانترنت على المجتمع المحلي، الا ان المهمة باتت
مستحيلة في ظل انفجار اعلامي كوني اطاح بمفهوم سيادة الدولة والغى قدرتها بصورة
شبه نهائية على تعبئة مواطنيها او عزلهم عن مؤثرات هذا الانفجار.
وكان بامكان الدولة ان تستعيد مجتمعاً بات منهوباً لوسائل البث الخارجية من
خلال ربطه بسلسلة مؤسسات هي كفيلة بملء جزء هام من الاهتمامات المعطلة لدى كثير
من افراد المجتمع، وما هروب هؤلاء الى وسائل البث الفضائي او الانغماس في كونية
الانترنت الا تعبيرا عن وجود اهتمامات لم تجد فرصتها في التعبير او التفعيل
محلياً.
ولعل المراقب لاوضاع الخليج خلال العقدين الماضيين يلحظ بوضوح كيف بدت الحاجة
الى ان تفسح دول الخليج المجال امام ظهور مؤسسات اهلية تستوعب هذا التطور
الكبير الذي شهدته هذه الدول مع اتساع حجم الطبقة الوسطى كمنتج اساسي لعملية
التحديث. ففرص التعبير الحالية لم تعد كافية لاستيعاب حاجات المواطنين،
والافتتان المكرور بما يسمى بالمجالس المفتوحة او مجالس استشارية مترهلة أو
الاحتجاج بنصوص مفتوحة في الدساتير او النظم الاساسية لا يتجاوز غرضها حد
"كليشيات" التجميل لن يلغي حقيقة كون هذه المجالس والنصوص تظل عاجزة عن
توفير الضمانات الكفيلة بتلبية متطلبات مجتمعات مفتوحة على التجارب السياسية في
العالم مع غياب مؤسسات اهلية قادرة على حث الدولة باتجاه تفعيل مواد النظام
الاساسي أو الدستور. وحتى لا نضيف في رصيد المقولة الدارجة بأننا نسن القوانين
حتى نخالفها، فإن الحاجة تجاوزت مجرد وضع قوانين معلبة فالقوانين تسن لتنظيم
عمل المؤسسات للحيلولة دون تداخل مهماتها واداوارها ولكن حين لا توجد هناك
مؤسسات في الاصل فأن وجود القوانين يصبح لغواً باطلاً، بل تصبح القوانين غطاء
يحمل بداخله مبرر انتهاكه وخرقه.
ثمة حاجات لدى مواطني هذه البلدان يراد لها ان تعبر عن نفسها في مؤسسات، فإما
ان تتولى الدولة مهمة خلق المناخ المناسب ووضع الترتيبات القانونية لظهورها كما
حدث في البحرين منذ ديسمبر الماضي او ان ترعى الدولة المبادرات المستقلة التى
يضطلع بها ذوي الكفاءات والمهتمون بتنمية المواهب وتمثيل المصالح العمومية. مع
الاشارة الى ان الرعاية لا تعنى سوى تقديم الدعم المادي والمعنوي لها لا
الانطلاق من فكرة الاستحواذ عليها او ربطها بالجهاز البروقراطي واحالتها الى
مجرد جهاز ملحق بنشاطية الدولة كما الحال بالنسبة للنوادي الرياضية والادبية
والمؤسسات الصحافية التي بدأت مستقلة في نشأتها ثم تحولت الى أجهزة ملحقة
بماكينة الدولة.
التشابك الموهوم بين الدولة والمجتمع المدني
ثمة تصور يتنامى احياناً بفعل التوترات الداخلية يتجه الى الايقاع بين مؤسسات
المجتمع المدني واجهزة الدولة، بما يجعل اتساع نشاط المجتع المدني خطراً ينذر
بتآكل صلاحيات الدولة وتقويض سلطانها. هذا التصور يجد مبرره غالباًً في
ظل غياب آلية واضحة للعلاقة بين المجتمع والدولة، فالتوترات السياسية والامنية
بين فئات المجتمع والدولة وظهور حركات اعتراضية بصورة فجائية يخلق في اذهان
المسئولين في الدولة شعوراً ملتبساً بين ما يمكن ان يوقر ضمانات لبقاء السلطة
واستقرارها من خلال تكثيف عمل اجهزة الامن واستعمال القمع كخيار فعال في سحق أي
ظاهرة احتجاجية تولد في المجتمع وبين ما يمكن ان تخلقه الدولة من فرص لامتصاص
الاحتقانات المحتبسة داخل قطاع واسع من المتضررين من المجال اللامحدود للدولة،
اذ يرى هذا القطاع بان مجال الدولة يمتد من غرف النوم مروراً
بالمصير السياسي والادوار المقررة لكل فرد في هذا القطاع الى لحظة رحيله الى
العالم الاخر.
التجاذب الافتراضي او هاجس الحرب بين المجتمع المدني والدولة هو وليد التشويه
الذي طال هذين المفهومين، ولا شك ان الاحساس بالخطر من تكاثر مؤسسات المجتمع
المدني وفق هذا التشويه سيفضي الى الاحساس بخطر الاطاحة بالدولة. وازالة
هذا الاحساس متوقفة على ادراك المعنى الحقيقي والمهني لكل من الدولة والمجتمع
المدني. فمن الثابت ان الدولة لدينا مارست عملية اختراق واسعة بحيث ادت الى ان
تحوز الدولة على مساحة تفوق صلاحياتها وتضخمت بحيث باتت عاجزة نتيجة للتطورات
شديدة السرعة التي شهدها المجتمع والدولة معاً عن الايفاء بالحدود الدنيا من
المسئوليات وتلبية متطلبات عاجلة لم يعد بالامكان ترحيلها الى أزمان مفتوحة.
فالدولة التي نشأت بوزارة لا تماثل الجهاز البيروقراطي الحالي، وبالتالي فإن
استراتيجية عمل الدولة تطلبت تطويراً عاجلاً في الجهاز الاداري للدولة وانشاء
وزارات متخصصة تتولى رعاية وادارة المصالح العمومية للمجتمع والدولة معا. في
المقابل ان المجتمع الذي كان يدار بوزارة واحدة ليس هو المجتمع الراهن،
وبالتالي فأن تحولات عميقة الجذور شهدها المجتمع على امتداد عقود من الزمن
احدثت تبدلات قيمية وثقافية واجتماعية واسعة، ولدت معها حاجات وانشدادات
نفسية وثقافية وسياسية مختلفة، وبالتالي لم يعد مجرد وجود جهاز بيروقراطي ممتد
قادراً على استيعاب هذه الحاجات، فضلاً عن ان هذه الحاجات والانشدادات انما
ظهرت لتعبر عن نفسها بصورة مستقلة عن الدولة واحياناً لمواجهة استبدادها
فاذا ما قررت الدولة احتواء هذه الحاجات والانشدادات داخل مؤسسات خاضعة
لسلطانها عطلت المسار الطبيعي للتمظهرات الفردية والجماعية، فلا تجد فرصتها
الحقيقية خارج قيد الدولة وهذا من شأنه احداث احتقانات داخلية تنتظر الفرصة
المناسبة لتعبر عن نفسها بصورة راديكالية.
ان التفكير السليم يتطلب تقييماً شاملاً لدور الدولة واداءها العام كما يتطلب
تصحيح المفهوم المشوّه للمجتمع المدني. فالاخير ليس موجهاً لاختراق حريم الدولة
او الانقضاض عليها بل هو عون لها على خلق الانسجام داخل الفضاء العام الذي يحوي
كل منهما، وهو اولاً واخيراً يستهدف انشاء مجتمع متعاون يراد منه تحمل مسئوليته
في استيعاب الانشطة الفائضة والخارجة عن مجال عمل الدولة. فكثير من التوترات
السياسية والامنية التي شهدتها منطقة الخليج في غضون العقدين الاخيرين كان
بالامكان امتصاصها عبر ايجاد قنوات تعبير ومؤسسات اهلية قادرة على تسهيل مهام
الدولة وايصال رسالة المجتمع الى الدولة.
ان الاوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها دول الخليج حالياً تفرض تطويراً
جوهرياً في خطاب الدولة وبخاصة مع قصورها عن الايفاء بمتطلبات الرعاية. فادامة
عصر الدولة الريعية التي ترى في جمع المحصول السنوي واعادة توزيعه على
المواطنين كآلية وحيدة لتحقيق الولاء والاستقرار لم تعد من الناحية الواقعية
ممكنة، وبات من الضروري ان تتخفف الدولة من اعبائها القديمة، وان تهيئ أجواء
قابلة لعملية نقل بعض ما ليس داخلاً في الاصل ضمن تخومها من مهام ومسئوليات الى
المجتمع، فكما أن الخصخصة تمثل خياراً عاجلاً لتخفيف الضغط على الدولة سيما مع
فقدان المبادرات الحقيقية الفاعلة في تسوية مشكلات لم يعد بالامكان حلها عبر
مشاريع استثنائية او برامج عاجلة بل لابد من قرارات جريئة واسترتيجيات بعيدة
المدى، فكذلك تشجيع مؤسسات المجتمع المدني هو ايضاً خيار موضوعي لتصفية
التوترات الداخلية وتحقيق التوازن الداخلي.
فالاوضاع الجديدة تلح بشدة لافساح المجال امام نشوء مؤسسات اهلية تستهدف اولاً
تمثيل مصالح الجماعات على اساس مهني (اتحادات، نقابات، مؤسسات صحفية) و ثقافي
(مراكز ثقافية مستقلة، مؤسسات نشر، صحف ومجلات)، وثانياً تخليص الدولة من اعباء
اضافية وتعزيز دورها الحقيقي كأداة تنظيمية للمصالح العمومية.
وليس سراً القول بأن هناك مؤسسات عديدة تعمل بصورة غير رسمية في دول الخليج،
ونقول غير رسمية لا للتعريض بمشروعيتها، فهذه المؤسسات تمثل المصاديق الحقيقية
لمفهوم المجتمع المدني، بل ان ظهور المزيد من المؤسسات على اختلاف تلاوينها
تمثل التعبيرات الجماعية لفئات تطمح للتصريح عن نفسها وتفعيل ما بداخلها من
كفاءات وانشدادات عاطفية وثقافية وحتى سياسية. ما نود التشديد عليه هو الطريقة
التي تعاملت بها الدولة مع هذه المؤسسات التي توصم بأنها "غير رسمية" او "غير
مصرح لها" او "غير قانونية" كأحكام نهائية كافية لتعطيل عمل أي مؤسسة واغلاق
ابوابها بالشمع الاحمر. وتزداد الاحوال سوءا حين تدرج هذه المؤسسات في خانة
الاعمال المخلة بالامن العام، أو حين توكل الى اجهزة الامن (المباحث) للتعامل
معها تماماً كما هي صلاحيات وزارات الداخلية التي تجعل من التعليم والاعلام
والعمل موضوعات خاضعة لصلاحيتها المباشرة.
فالتعامل مع المؤسسات الاهلية من منظور امنى لا يكفي لتوتير العلاقة بين
المجتمع والدولة فحسب بل من شأنه خلق مجتمع موتور لا يرى في بقاء واستقرار
الدولة شأناً يعنيه بل يرى في زوالها خلاصاً من طوق الامن وقيود القمع. فقد
تتحول الدولة بالنسبة لكثيرين كابحاً وعائقاً امام تحقيق طموحاتهم المشروعة
نتيجة للاصرار على اللجوء الى الوسائل القمعية كخيار للتعامل مع الظواهر
السلمية. فاذا ما ازدادت الدولة اصراراً على استثمار اكبر قدر من القمع في
مواجهة المبادرات الفردية والجماعية السلمية توفّرت مبررات العنف المتبادل بين
الدولة والمجتمع. وهذا يعني في أحد مدلولاته فشل الدولة في تحقيق الانسجام
الداخلي، كما يعكس ايضاً عجزها في التوصل الى تفاهم حقيقي مع شعبها.
فيا ترى ما الذي تغير في البحرين حتى يتغير خطاب احتجاجي ظل مشحوناً بالمناكفة
والعداء ضد حكومة هذا البلد من قبل قوى سياسية معارضة في الخارج والداخل لعقدين
من السنوات الى خطاب شديد الوطنية والولاء لهذا البلد. فثمة لغة جديدة بدأت
تتحرك في افواه قادة المعارضة البحرانية العائدين الى ديارهم وهم يكيلون الثناء
الى حكومة بلادهم ويؤازرونها في مشروعها الاصلاحي وينبذون بالقول والعمل أي
تصريحات تسيء الى هذه الحكومة.
إن احدى التغييرات الكبرى التي شهدتها البحرين وخلال فترة قياسية هو ولادة
مجتمع مدني حقيقي بمؤسساته المستقلة عن الدولة، فجمعيات حقوق الانسان، والمراكز
الثقافية والصحافية (هناك تصريحات لصحف مستقلة صدرت من قبل الامير ورئيس
الوزراء)، اضافة الى الاتحادات والنقابات المهنية واللجان الاهلية والجمعيات
الدينية وجدت طريقها الى الظهور العلني بمباركة وتشجيع من الدولة نفسها.
وماذا كانت النتيجة؟ ان البحرين ولأول مرة منذ عقود تشهد استقراراً داخلياً
وتلاحماً وطنياً منقطع النظير. ورغم ان ثمة ملفات مازالت قيد الدراسة يدور
الجدل حولها بين قوى المعارضة والحكومة لايجاد تسوية شاملة كقضية المبعدين
والبدون والبطالة وغيرها الا ان ثمة اطمئناناً بين الطرفين بأن هذه الملفات
قابلة للحسم سيما في ظل اجواء الثقة السائدة وجدية اصحاب القرار في المضي نحو
الاصلاح السياسي الشامل في البحرين.
البحرين بالتأكيد ليست حالة استثنائية وليست نموذجاً غير قابل للاحتذاء، بل ان
ما جرى يقدم دليلاً اضافياً على ان الاصلاح السياسي وارساء البنية الاساسية
لنشوء مؤسسات مجتمع مدني يمثل مصالحة حقيقية بين المجتمع والدولة. ولو قدر لشخص
ان يستنطق صاحب القرار الحكيم بتدشين مرحلة التغيير والاصلاح في البحرين كم
تمنى لو ان القرار الشجاع صدر قبل هذا التاريخ، أي قبل ان تخسر الدولة
وفئات عديدة من المجتمع طاقات وجهود ومشاعر ولاء كان الوطن أولى بها. قد يجادل
البعض بأن ما جرى هو وليد لحظة تاريخية لا يمكن ان تقع في غيرها، ولكن ما جرى
في البحرين يدنو بكثير عن تطلعات وطموحات قوى المعارضة البحرينية نفسها التي
وجدت نفسها امام قطار الاصلاح وهو يسير بسرعة تفوق قدرتها على التقييم
والتحليل. ولربما لهول المفاجئة خيل للبعض في بادىء الامر أن ثمة مؤامرة تحاك
بليل لتدمير المعارضة وتصفيتها ولكن ما لبث هذا الخيال ان يتحول الى صدمة
معاكسة نتيجة ما ظهر في هذه المسيرة الجادة ناحية الاصلاح الشامل وبداية حقبة
جديدة من المصالحة الوطنية متوجة بظهور مؤسسات اهلية عديدة. ومن المثير للدهشة
كما يؤكد ذلك بعض اقطاب المعارضة الدينية والوطنية ان قادة هذا البلد وعلى
راسهم الشيخ حمد وولي عهده الشيخ سلمان يحثون مواطنيهم على تشكيل انفسهم
ضمن جمعيات ومؤسسات اهلية ويشجعونهم على احياء ما اندثر منها. وفي قصة نقلها
احد اقطاب المعارضة ان مجموعة من الاهالي زاروا الامير الشيخ حمد وطالبوا
بترخيص لاصدار صحيفة يومية، فاقترح عليهم عدم الدخول في متاهات بيروقراطية
الدولة وعوضاً عن ذلك بادر الامير شخصياً الى اصدار الترخيص الصحفي. هذه القصة
كما ينقلها قطب بارز في المعارضة البحرينية لا يرجو من كل ذلك نيل رضا السلطة
ولا يبتغي من ورائها التحول الى بوق دعائي لصالحها، ولكن بلا شك ان هذه
القصة كانت احد مبررات كل ما ذكرناه آنفاً عن قادة الاصلاح في البحرين. فما
يجري في هذه الجزيرة يستحق كل تقدير وتعضيد واشادة، كما يلزمنا جميعاً ومن باب
الحرص على نجاح التجربة ان تجد انصاراً لها في الداخل والخارج لكي تضاف الى
رصيد التجارب الناجحة في المنطقة وان تشجع باقي الدول الى تطوير تجاربها الخاصة
بحيث يكون الاتجاه الاصلاحي تياراً عاماً يتنافس فيه كل المتطلعين نحو عقد
مصالحة وطنية شاملة.
فجميل ان تنادي الدولة شعبها نحو تشكيل مؤسساته وتستحثه على تطوير الاطارات
التمثيلية لفئاته، وليس مبادرة الدولة ممثلة في قادتها سوى تعبيراً عن اطمئنان
تام بأن تمأسس المجتمع لا يخل بهيبة الدولة بل يزيد في استقرارها، فالسلطة
تتعامل الآن مع اطارات واضحة وعلنية دون انفجارات مبيتة في السر او تشكيلات
راديكالية تبرز في هيئة اعمالاً صدامية مع مؤسسات الدولة ورجالها، ولم يعد هناك
حاجة مباشرة لتضخم المؤسسات الامنية وانتشار رجالها اوساط الناس فهناك مؤسسات
قادرة على نقل ما ينبض في المجتمع من قضايا حقوقية وسياسية وثقافية واجتماعية
الى الدولة. هذا من المنظور الامني، وهو منظور مازال يضعف عزم كثير من قادة دول
الخليج التي لم تولد فيها المؤسسات الاهلية بصورة طبيعية غالباً.